الوقفات التدبرية

﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا...

﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ١﴾ [المجادلة: 1] * * * افتتحت السورة بالتي تجادل رسول الله في زوجها وتشتكي إلى الله ، والتحاور في ذلك ، وذلك أن هذه الآية نزلت في صحابية قيل إن اسمها خولة بنت ثعلبة ، ظاهر منها زوجها ، أي: قال لها: أنت عليّ كظهر أمي ، وكان الظهار يعد طلاقًا في الجاهلية ، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتكي أمرها ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك قد حرمت عليه )) ، وهي تقول له: والله ما ذكر طلاقًا ثم قالت: إني أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ، وإن لي صبية صغارًا ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك. فأنزل هذه الآية ، وأنزل حكم الظهار بعدها. والملاحظ في هذه السورة أن طابعها في النجوى والمحاورات. فقد ذكر النجوى بين الأفراد وعلم الله بهم أينما كانوا، وأيًا كان عددهم ﴿ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ (7)﴾ [المجادلة: 7] وذكر التناجي بالإثم والعدوان في الآية الثامنة. ثم ذكر كيف يكون التناجي بين المؤمنين: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَنَٰجَيۡتُمۡ فَلَا تَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ ﴾ [المجادلة: 9] وذكر أن النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا (10) وذكر حكم مناجاة الرسول ﴿12-13﴾. وذكر حالًا من موقف المنافقين في الحلف على الكذب للمؤمنين. وهو حالة من حالات الحديث والمحاورات ، ثم إن النجوى حديث. وذكر في آخر السورة حزب الله ، وأفراد الحزب بينهم حديث ومحاورات. كما ارتبط أول السورة بآخرها ، فإنه ((بعد أن ذكر أمر التي سمع الله قول التي تجادل في زوجها والحكم في ذلك ، قال:﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ٥﴾. وقال في أواخرها:﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ٱلۡأَذَلِّينَ٢٠﴾ فذكر في أول السورة أنهم كُبتوا. وقال في أواخرها أنهم في الأذلين. ثم ذكر في آخر السورة ما ينبغي أن يكون موقف المؤمنين من هؤلاء فقال:﴿لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ﴾ فالمناسبة ظاهرة)). ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا ﴾ ﴿قد﴾ للتوقع والتحقيق والتقريب ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله شكواها ، وقد تحقق ذلك. جاء في (الكشاف): ((فإن قلت: ما معنى ﴿قد﴾ في قوله:﴿قَدۡ سَمِعَ﴾ ؟ قلت: معناه التوقع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها)). وجاء في (روح المعاني): ((و﴿قد﴾ للتحقيق أو للتوقع ، وهو مصروف إلى تفريج الكرب لا إلى السمع لأنه محقق ، أو إلى السمع لأنه مجاز أو كناية عن القبول ، والمراد توقع المخاطب ذلك)). وقد سمع الله شكواها وأجابها عن قرب في الوقت، وليس بين شكواها والإجابة وقت بعيد . ((والسماع مجاز عن القبول والإجابة )). قد تقول: لقد قال سبحانه ههنا ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا﴾. فقال:﴿قَدۡ سَمِعَ﴾ وقال في آل عمران:﴿لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ﴾. فقال:﴿ لَّقَدۡ سَمِعَ ﴾ فما الفرق؟ والجواب أن ﴿لقد﴾ آكد من ﴿قد﴾ لدخول لام جواب القسم عليها. والقول في آل عمران أعظم في حق الله ، وهو كبيرة من الكبائر ، فقد قالوا:﴿إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ﴾ ولذا قال بعدها:﴿سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ﴾ ، وإن الله توعدهم على ذلك بعذاب الحريق فقال:﴿لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ١٨١﴾ فلما كان القول أعظم ، وقد توعدهم بالعذاب ؛ ناسب ذلك تأكيد السماع لإيقاع العقوبة ، فقال:﴿لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ﴾ باللام الواقعة في جواب القسم ، والله أعلم. ﴿وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾ ((واشتكاؤها إليه تعالى: إظهار بثها وما انطوت عليه من الغم والهم ، وتضرعها إليه عز وجل)). و(اشتكى) أبلغ من (شكا) فإنه على وزن (افتعل) وهو أبلغ من ﴿فعل﴾ ، ونظيره: جهد واجتهد ، وصبر واصطبر. وذلك أن هذا الأمر قد غمّها كثيرًا وآذاها ، فبالغت في الشكوى . جاء في (التحرير والتنوير): ((والاشتكاء مبالغة في الشكوى ، وهي ذكر ما آذاه ، يقال: شكا وتشكى واشتكى وأكثرها مبالغة (اشتكى) . ﴿وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ﴾. ((وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده)). ﴿إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِير﴾. ((أي: تعالى يسمع كل المسموعات ويبصر كل المبصرات على أتم وجه وأكمله. ومن قضية ذلك أن يسمع سبحانه تحاورهما ، ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء ، وسائر آثار التضرع. والاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة وتعليل الحكم بما اشتهر به الاسم الجليل من وصف الألوهية ، وتأكيد استقلال الجملتين)). قد تقول: لقد قال سبحانه في غافر:﴿يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ١٩ وَٱللَّهُ يَقۡضِي بِٱلۡحَقِّۖ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَقۡضُونَ بِشَيۡءٍۗ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِير﴾. فقال:﴿إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِير﴾ فأكد بـ ﴿إن﴾ وجاء بضمير الفصل ﴿هو﴾ وعرف الوصفين (السميع والبصير). في حين قال في آية المجادلة:﴿إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ﴾ فلم يأت بضمير الفصل ، ولم يعرف الوصفين. فلم ذاك؟ والجواب أنه لما ذكر في آية غافر أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فبين أن علمه لا يشبهه علم ، وذكر أن الله يقضي بالحق ، والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء ، فبين أن قضاءه لا يشبهه قضاء ، فليس في الوجود من يعلم كعلمه ، ولا يقضي كقضائه ، بين أن سمعه لا يشبهه سمع ولا بصره يشبهه بصر ، فكأنه هو السميع البصير وحده ، فقصر كمال السمع والبصر عليه سبحانه. فناسب كل تعبير سياقه الذي ورد فيه. وقد تقول: لقد قال سبحانه في الشورى:﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾. فعرف الوصفين السميع والبصير ، ولم يؤكد ذلك بـ ﴿إن﴾. فنقول: أما إنه عرف الوصفين فللقصر ، فكأن غيره ليس بسميع ولا بصير ، فهو الكامل في الوصفين ، وذلك أنه لما قال:﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ﴾ ناسب أن يقول:﴿وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾ أي: الكامل فيهما ، فقصر السمع والبصر عليه ؛ لأنه ليس كمثله شيء في هذين الوصفين وفي غيرهما. قد تقول: ولم لم يؤكد بـ﴿إن﴾ كما فعل في آية غافر؟ والجواب: أن السياق ليس في السمع ولا في البصر ـ فلم يقتض التوكيد ، قال تعالى:﴿فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ١١﴾ وقد تقول: والسياق في غافر ليس في السمع والبصر أيضًا ، لما أكد؟ فنقول: إنه لما قال ﴿ يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ ﴾، والأعين آلة البصر ، دل على أنه البصير ؛ لأن الذي يعلم خائنة الأعين لا بد أن يرى الأعين ، فهو لا يرى الأعين فقط ، بل يراها ويعلم خائنتها أيضًا ، كالغمز والنظر إلى غير المحرم واستراق النظر وغيره. وقال:﴿وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ﴾ ومما يخفى في الصدور إذا أظهره فإنما يظهره بالقول ، والقول مما يسمع ، ألا ترى إلى قوله سبحانه:﴿وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِۦٓۖ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ١٣﴾ [الملك: 13] فذكر إسرار القول والجهر به ، والقول يسمع. ثم إن قوله تعالى:﴿وَٱللَّهُ يَقۡضِي بِٱلۡحَقِّۖ﴾ يدل على السمع والبصر ، فالقضاء يحتاج إلى سمع وبصر . جاء في (روح المعاني): ((﴿إِنَّ ٱللَّهَ ههُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾ تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ... وفيه إشارة إلى أن القاضي ينبغي أن يكون سميعًا بصيرًا )). وجاء في (البحر المحيط) : ((﴿إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾ تقرير لقوله: ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ، ويبصر ما يعملون ، وتعريض بأصنامهم انها لا تسمع ولا تبصر )). وقد ذكر طرفًا مما يقال ويسمع ويبصر في سياق الآية . من ذلك قوله تعالى:﴿فَٱدۡعُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ﴾ [غافر: 14] والمدعو لا بد أن يسمع من يدعوه حتى يجيبه. وقوله:﴿يَوۡمَ هُم بَٰرِزُونَۖ لَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنۡهُمۡ شَيۡءٞۚ ﴾ [غافر: 16] ، ومعنى ذلك أنه يراهم لا يخفى عليه منهم شيء. وقوله:﴿مَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ حَمِيمٖ وَلَا شَفِيعٖ يُطَاعُ﴾ ولا بد للمشفوع عنده أن يسمع الشفيع. فالسياق – كما هو ظاهر – في الدلالة على السمع والبصر. كما أنه تعريض بآلهتهم التي لا تسمع ولا تبصر وليس لها شيء أصلًا وهي عاجزة عن كل شيء. والله له الكمال الأعلى ﴿ وَلَهُۥ كُلُّ شَيۡءٖۖ ﴾ [النمل: 91] فناسب كل تعبير موضعه الذي ورد فيه. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 72: 80)

ﵟ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﵞ سورة المجادلة - 1


Icon