الوقفات التدبرية

﴿ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ...

﴿ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمۡۖ إِنۡ أُمَّهَٰتُهُمۡ إِلَّا ٱلَّٰٓـِٔي وَلَدۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَيَقُولُونَ مُنكَرٗا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ٢﴾ [المجادلة: 2] * * * ذكر في هذه الآية حقيقة الظهار ، وذكر في الآية بعدها حكم الظهار. فذكر في هذه الآية أن الذين يظاهرون من نسائهم فيقول أحدهم لزوجه: أنت عليّ كظهر أمي ، كلامهم باطل ، وهو عار عن الحقيقة أولًا ، فالزوجة ليست أمّاً ، والأزواج لسن أمهات ، وإنما أمهاتهم من ولدنهم. ولم يقل: (بل أمهاتهم من ولدنهم) وإنما قال ذلك على سبيل الحصر ، فجاء بـ ﴿إنْ﴾ و﴿إلا﴾ فقال:﴿إِنۡ أُمَّهَٰتُهُمۡ إِلَّا ٱلَّٰٓـِٔي وَلَدۡنَهُمۡۚ﴾ حصرًا. ولم يكتف بذكر هذه الحقيقة المعلومة ، وإنما ذكر فظاعة هذا القول وقبحه فقال:﴿وَإِنَّهُمۡ لَيَقُولُونَ مُنكَرٗا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ﴾ فذكر أولًا أنه منكر من القول ، أي: هو قول ينكره الشرع والعقل والطبع ، وأنه زور ، أي: كذب باطل منحرف عن الحق. جاء في (البحر المحيط): ((جاء النفي بقوله:﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمۡۖ﴾ ثم أكد ذلك بقوله:﴿إِنۡ أُمَّهَٰتُهُمۡ﴾ أي: حقيقة إلا اللائي ولدنهم. فقول المظاهر منكر من القول تنكره الحقيقة وينكره الشرع ، وزور كذب باطل منحرف عن الحق)). وقد أكد ذلك بإن واللام فقال:﴿وَإِنَّهُمۡ لَيَقُولُونَ مُنكَرٗا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ﴾ لبيان شناعة هذا القول. جاء في (التحرير والتنوير): ((﴿وَإِنَّهُمۡ لَيَقُولُونَ مُنكَرٗا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ﴾ تأكيد الخبر بإن واللام للاهتمام بإيقاظ الناس لشناعته)). لقد جاءت في الآيات تأكيدات عدة لبيان بطلان الظهار وشناعته. فقال أولًا:﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمۡۖ﴾ بالجملة الاسمية المنفية بـ﴿ما﴾ ، ولم يقل (لسن أمهاتهم) فتكون الجملة فعلية. والجملة الاسمية آكد وأثبت كما هو معلوم. وقال:﴿إِنۡ أُمَّهَٰتُهُمۡ إِلَّا ٱلَّٰٓـِٔي وَلَدۡنَهُمۡۚ﴾ بالحصر ـ وهو تأكيد ، ثم إنه نفى بـ﴿إن﴾ وليس بـ ﴿ما﴾ ، فلم يقل ( ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) ، و﴿إنْ﴾ أقوى من ﴿ما﴾ في النفي. ثم أكد القول بـ ﴿إنّ﴾ واللام فقال: ﴿وَإِنَّهُمۡ لَيَقُولُونَ مُنكَرٗا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ﴾ ثم جمع المنكر والزور ، فجمع القبح كله. ثم قال﴿مِنكُم﴾ لتقبيح فعلتهم عند أقوامهم ومن هم منهم ؛ لينكروا عليهم ويقبحوا فعلتهم ، لينأوا عن ذلك ويبتعدوا عنه. جاء في (روح المعاني): ((وإقحام (منكم) في الآية للتصوير والتهجين ؛ لأن الظهار كان مخصوصًا بالعرب)). لقد قال هاهنا:﴿إِنۡ أُمَّهَٰتُهُمۡ إِلَّا ٱلَّٰٓـِٔي وَلَدۡنَهُمۡۚ﴾ فقال:﴿ٱلَّٰٓـِٔي﴾ بالهمز ، ولم يقل: (إلا اللاتي ولدنهم) ذلك أن القرآن استعمل﴿ٱلَّٰٓـِٔي﴾ بالهمز في حالتي الظهار والطلاق فقط ، ولم يستعملها في غير ذلك. قال تعالى:﴿ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسۡ‍َٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّۚ ٥٠﴾ [يوسف: 50] وقال:﴿يَ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ [الأحزاب: 50] فقال:﴿ ٱلَّٰتِيٓ ﴾ ولم يقل: ﴿اللائي﴾ وذلك في غير حالتي الطلاق أو الظهار. وهذا في جميع القرآن ((وكأن ذلك لثقل الهمزة ، فاستعمل الهمزة لثقلها للحالات الثقيلة النادرة ، وهي حالات المفارقة. ومن الطريف أن بناء ﴿اللائي﴾ وجرسها يوحي بذلك ، فكأنها مشتقة من اللأي ، وهو الإبطاء والاحتباس والجهد والمشقة والشدة. والمظاهر والمطلق محتبس عن امرأته مبطئ عنها ، وفي ذلك ما فيه من الجهد والمشقة والشدة للطرفين)). وهذا من لطيف الاستعمال. ﴿وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ﴾. أي: يعفو عما سلف ويغفره له إذا لم يعد صاحبه لفعله ، وكما يشاء ربنا سبحانه. وفرقوا بين العفو والمغفرة فقالوا: إن العفو ترك العقوبة والتجاوز عن الذنب. والمغفرة ستر الذنب وتغطيته. فقد يعفو الشخص ولا يغفر ، أي: يعلن سوء فعلة الفاعل ويظهرها ، ثم يتركه فلا يعاقبه فيعفو عنه. فالعفو لا يخالف التقريع على الذنب وإشهاره. وأما المغفرة فهي ستر الذنب فلا تذكره له ، أو قد تذكره له ولكن لا تفضحه به. فقد قال تعالى بعد أن ذكر ما فعله بنو إسرائيل من اتخاذ العجل مبكتًا لهم:﴿ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ﴾ قال تعالى: ﴿وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ٥١ ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ٥٢﴾ [البقرة: 51-52] فذكر لهم ولغيرهم سوء فعلتهم ، ثم قال:﴿ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ﴾. وقال ربنا مخاطبًا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد معركة أحد ، مبينًا ما لا ينبغي من فعلهم. فقال: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ١٥٢﴾ [آل عمران: 152] ثم إن العفو قد لا يكون عن ذنب أو سوء ، وإنما هو عما هو خلاف الأولى، كما قال تعالى لخليله وحبيبه صلى الله عليه وسلم: ﴿عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَٰذِبِينَ٤٣﴾ [التوبة: 43] أما المغفرة فهي ستر الذنب وعدم فضحه به. جاء في (الفروق اللغوية): ((الفرق بين العفو والمغفرة قد فرق بينهما بان العفو ترك العقاب على الذنب. والمغفرة: تغطية الذنب بإيجاب التوبة ... وقيل: العفو: إسقاط العذاب. والمغفرة أن يستر عليه بعد ذلك جرمه صونًا له عن الخزي والفضيحة. فإن الخلاص من عذاب النار إنما يطلب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة. فالعفو: إسقاط العذاب الجسماني. والمغفرة: إسقاط العذاب الروحاني. والتجاوز: يعمهما)). وقدم اسمه ﴿العفو ﴾ على ﴿الغفور﴾ وكأن ذلك إشارة إلى تقديم العفو على المغفرة، فبدأ بما هو أخف على من أسيء إليه ، لأن المغفرة هو العفو وزيادة ، إذ هي ترك العقوبة مع الستر. ثم إن العفو – كما ذكرنا – قد يكون عما هو خلاف الأولى وليس عن معصية ، فهو أعم ، والله أعلم. وحيث اجتمع العفو والمغفرة قدم العفو ، وحيث اجتماع الاسمان الكريمان قد اسمه العفو. قال تعالى:﴿ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا ﴾ [البقرة: 286] وقال:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ٦٠﴾ [الحج: 60] وقال: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا٤٣﴾ [النساء: 43] وجاء بالاسمين الجليلين على صيغة المبالغة للدلالة على عظيم عفوه ومغفرته ، نسأله سبحانه أن يعفو عنا ويغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 80: 86)

ﵟ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﵞ سورة المجادلة - 2


Icon