الوقفات التدبرية

﴿وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ...

﴿وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ٣﴾ [المجادلة: 3] * * * بعد أن ذكر حقيقة الظهار وفظّعه ذكر حكم الظهار فقال:﴿وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ﴾ ولم يقل: (والذين يظاهرون منكم) كما قال في الآية السابقة؛ لأنه أراد حكم الذين يظاهرون على العموم ليس مختصًا ذلك بزمن ولا بقوم معينين. جاء في (البرهان في متشابه القرآن) للكرماني: ((قوله تعالى ﴿ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم﴾ وبعده ﴿وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ﴾ لأن الأول خطاب للعرب ، وكان طلاقهم في الجاهلية الظهار ، فقيدهم بقوله:﴿مِنكُم﴾ وبقوله:﴿وَإِنَّهُمۡ لَيَقُولُونَ مُنكَرٗا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ﴾ . ثم بين حكم الظهار للناس عامة فعطف عليه فقال:﴿وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ﴾ فجاء في كل آية ما اقتضى معناه)). وجاء في (التحرير والتنوير) في قوله:﴿وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ﴾ : ((عطف على جملة ﴿ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمۡۖ﴾ أعيد المبتدأ فيها للاهتمام بالحكم والتصريح بأصحابه ، وكان مقتضى الكلام أن يقال: فإن يعودوا لما قالوا فتحرير رقبة ، فيكون عطفًا على جملة الخبر من قوله:﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمۡۖ ﴾ . . . )). ويبدو – والله أعلم – أنه كرر الاسم الموصول فقال:﴿وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ﴾ ولم يقل: (فإن يعودوا لما قالوا) لئلا يخص الحكم الأولين بقوله:﴿ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم﴾ فيظن ظان أو يقول: إن هذا الحكم مختص بمن يظاهر منهم ، يعني: العرب أو غيرهم ممن يخصه قوله ﴿منكم﴾ ، فأطلق التعبير ليشمل كل مظاهر على العموم. ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ﴾. المشهور أن المقصود بذلك العزم على الوطء وإرادته. جاء في (التحرير والتنوير): ((استعمل فعل ﴿يَعُودُونَ﴾ في إرادة العودة ... على نحو قوله تعالى:﴿إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ﴾ أي: إذا أردتم القيام، وقوله: ﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ٩٨﴾. وعلى كل قول فإن الحكم واحد وهو ما ذكره ربنا ﴿فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ﴾ أو غير ذلك مما ذكره رب العزة في الآية التي بعدها. ﴿ذَٰلِكُمۡ﴾. أي: ما ذكره ربنا من الحكم بالكفارة والخطاب للمؤمنين. ﴿وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾. ((أي: عالم بظواهرها وبواطنها ومجازيكم بها ، فحافظوا على حدود ما شرع لكم ، ولا تخلّوا بشيء منها)). قد تقول: لقد قال ربنا في آية المجادلة هذه:﴿وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ فلم يؤكد الجملة. وقال في سورة هود:﴿وَإِنَّ كُلّٗا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ١١١﴾ [هود: 111] فأكد الجملة بـ ﴿إن﴾ فقال:﴿إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ فما الفرق؟ والجواب أنه أكد في آية هود بـ ﴿إن﴾ ؛ ذلك أنه ذكر العمل وذكر أن كلاّ ليوفينهم ربك أعمالهم فلا يترك أحدًا من المكلفين كما أكد الفعل بنون التوكيد الثقيلة فقال:﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ﴾ وجمع العمل فقال:﴿أَعۡمَٰلَهُمۡۚ﴾ ، فكان التوكيد بإن وباللام في ﴿لما﴾ ولام القسم ونون التوكيد في ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ﴾ ، وجمع العمل فقال:﴿أَعۡمَٰلَهُمۡۚ﴾ فلا يترك عملًا ولا يترك أحدًا من المكلفين. فعمت آية هود كل الأعمال حسنها وسيئها ، وعمت جميع المكلفين. وأما آية المجادلة فهي في الظهار، والظهار أمر واحد من المنكرات، والمظاهرون قلة. فاختلف السياقان من حيث كمية الأعمال ونوعها. ففي آية هود عمت الآية جميع الأعمال فلم تترك عملًا. وأما في آية المجادلة فهو في عمل واحد وهو الظهار. وفي آية هود عمت الآية جميع الأعمال من حيث النوع، فشملت الحسن والقبيح. وأما في آية المجادلة فهو في نوع واحد من المنكرات وهو الظهار. كما اختلف الأمران من حيث عدد أصحاب العمل. ففي آية هود عمت الآية جميع المكلفين بلا استثناء، مؤمنهم وكافرهم. وأما ما في آية المجادلة فهي في قسم واحد من المكلفين وهم المظاهرون. وهم قلة قليلة بالنسبة إلى عموم المكلفين. فاختلف السياقان من كل وجه. فناسب التوكيد آية هود؛ بخلاف آية المجادلة. فناسب كل تعبير سياقه الذي ورد فيه. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 86: 89)

ﵟ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﵞ سورة المجادلة - 3


Icon