الوقفات التدبرية

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ...

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ٥﴾ [المجادلة: 5] * * * ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ ﴾. أي: يعادونها (( والمحادّة: المعاداة والمخالفة في الحدود)) ، جاء في (تفسير البيضاوي): ((﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾ يعادونهما ، فإن كلًا من المتعاديين في حد غير حد الآخر ، أو يضعون أو يختارون حدودًا غير حدودهما)). وجاء في (روح المعاني): ((﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾ أي: يعادونهما ويشاقّونهما ؛ لأن كلًا من المتعاديين في حد وجهة غير حد الآخر وجهته ، كما أن كلًا منهما في عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه)). واتصال هذه الآية بقوله تعالى:﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ﴾ في الآية السابقة في غاية الظهور والحسن. جاء في (روح المعاني): ((وفي ذكر المحادّة في أثناء ذكر حدود الله تعالى دون المعاداة والمشاقةّ حسن موقع جاوز الحد)). ﴿كُبِتُواْ﴾: أُخذوا وأُذلّوا والكبت: الصرف والإذلال ، يقال: كبت الله العدو ، أي: صرفه وأذلّه وأخذه بالعذاب. قيل: إن ذلك إخبار عما حدث لمشركي قريش في بدر والخندق. وقيل: هو إخبار بالفعل الماضي عما سيحدث لهم في المستقبل ، وكأن الأمر لتحققه قد وقع فعلًا ، وهي بشارة للمؤمنين. جاء في (البحر المحيط) : ((﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾ نزلت في مشركي قريش ، أُخذوا يوم الخندق بالهزيمة ، كما أخزي من قاتل الرسل من قبلهم ... وقيل: يوم بدر ... قيل: و﴿كُبِتُواْ﴾ بمعنى : سيكبتون ، وهي إشارة للمؤمنين بالنصر، وعبر بالماضي لتحقق وقوعه)). وكلاهما صحيح وقد حصل. ﴿كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ﴾ (( من كفار الأمم الماضية المحادين لله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام)). ﴿وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖۚ﴾ أي: آيات واضحات ((فيمن حادّ الله تعالى ورسوله من قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم. وقيل آيات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به)). قد تقول: لقد قال هنا:﴿وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖۚ﴾. وقال في سورة البقرة: ﴿وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖۖ ﴾ [البقرة: 99] فقال في المجادلة: ﴿ وَقَدۡ ﴾. وقال في آية البقرة:﴿ وَلَقَدۡ ﴾ بذكر اللام الواقعة في جواب القسم. وقال في آية المجادلة :﴿ أَنزَلۡنَآ ﴾. وقال في آية البقرة:﴿وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ﴾. فجعل الإنزال عامًا في المجادلة. وخصصه بالإنزال إليه في البقرة. فلم ذاك؟ فنقول: إن كل تعبير مناسب لسياقه الذي ورد فيه. فإن السياق في آية البقرة في الكلام على اليهود الذين يؤمنون بما أنزل على موسى ويكفرون بما أنزل على محمد عليهما السلام. فهم يقرون بعموم الإنزال على الرسل المذكورين عندهم وينكرون الإنزال على محمد ، والكلام إنما هو في هذا السياق. فقد قال تعالى:﴿وَلَمَّا جَآءَهُمۡ كِتَٰبٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمۡ وَكَانُواْ مِن قَبۡلُ يَسۡتَفۡتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦۚ فَلَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ٨٩﴾ [البقرة: 89] وقال:﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ نُؤۡمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَيَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَهُمۡۗ ﴾ [البقرة: 91] وقال:﴿قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ ﴾ [البقرة: 97] وذلك كما ذُكر أن يهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسئلة ، فأخذ عليهم العهود والمواثيق لئن أجابهم ليتابعنه على الإسلام ، ثم أجابهم عنها، ثم قالوا له بعد ذلك: أنت الآن حدثنا عن وليك من الملائكة فحينها نجامعك أو نفارقك. فقال: إن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيًا قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك ، ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك. ثم قالوا لهم : إنه عدونا. فأنزل الله عز وجل:﴿يَعۡمَلُونَ٩٦ قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ . . . ﴾. فهم يقرون بالإنزال على العموم ، وينكرون الإنزال على سيدنا محمد، فناسب أن يقول:﴿وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ﴾. ولو قال: ( ولقد أنزلنا آيات بينات) ولم يقل: ﴿إليك﴾ لم يدل على أن المقصود أن الإنزال إنما هو إليه نصًا صريحًا، ولظن ظانّ أو يدّعي مدّع أن المقصود بالسياق هو موسى عليه السلام كما أخبر عنه في آيات عديدة أنه جاءهم بالبينات من نحو قوله تعالى:﴿ وَلَقَدۡ جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ﴾ [العنكبوت: 39] وقوله:﴿۞وَلَقَدۡ جَآءَكُم مُّوسَىٰ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ٩٢﴾ [البقرة: 92] وهي في السياق نفسه. فكان المناسب أن يقول: ﴿إليك﴾ ليبين المقصود ، ولو لم يذكره لالتبس الأمر ولم يتعين المقصود. وأما في المجادلة فمن أول السورة ما يدل على أن الإنزال إليه. وقد قال قبل الآية:﴿ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ﴾ ، وقال في الآية نفسها:﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾ فأخبر عنه أنه رسول الله، فلا شك أن الإنزال إنما هو إليه ، فلا يستدعي ذكر ﴿إليك﴾ ليعلم أنه رسول الله. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه قال في الآية:﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ﴾. ويعني بالذين من قبلهم كفار الأمم الماضية المحادين لله ورسله. ولا شك أنه سبحانه أنزل إلى الرسل الماضية آيات بينات، فناسب عدم تخصيص الإنزال بأنه إليه، ليعم ما أنزل إليه وما أنزل من قبله، وهم الذين أشار إليهم في الآية. فكان العموم أولى وأنسب بالسياق. ومن ناحية ثالثة أن الإنزال إنما هو إلى الرسل ولأممهم ليعملوا بما أنزل إليهم ، كما قال سبحانه:﴿لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ١٠﴾ [الأنبياء: 10] وقال:﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا ﴾ [البقرة: 136] ففي آية المجادلة أطلق الإنزال ليعم الإنزال إلى الرسول وإلى الرسل قبله وإلى الذين أنزل إليهم حكم الظهار الذي ورد في السياق ليعملوا به. فناسب الإطلاق من كل ناحية. وقال في آية البقرة:﴿وَلَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ﴾ فقال:﴿وَلَقَدۡ﴾ باللام الواقعة في جواب القسم؛ لأن المقام يستدعي ذلك ، فإن اليهود كانوا ينكرون أنه أنزل عليه الوحي ، كما هو ظاهر في السياق، فأكد الإنزال باللام وقد. بخلاف آية المجادلة ، فالكلام مع المؤمنين ، وحكم الظهار إنما هو أنزل إليهم؛ فلم يستدع ذلك أن يؤكد. فناسب كل تعبير سياقه. ﴿وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾. أي: يخزيهم ويذهب بكبرهم، فإن الذين يحادّون الله ورسوله يناسب أن يكون العذاب مخزيًا لهم. ونحو ذلك ما جاء في التوبة وهو قوله سبحانه:﴿أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّهُۥ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَأَنَّ لَهُۥ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدٗا فِيهَاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡخِزۡيُ ٱلۡعَظِيمُ٦٣﴾ [التوبة: 63] فقد قال فيهم:﴿ذَٰلِكَ ٱلۡخِزۡيُ ٱلۡعَظِيمُ﴾ وذلك أنهم حادوا الله ورسوله. وهو نظير قوله تعالى: ﴿وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾ فالعذاب المهين إنما هو مخزٍ لهم. قد تقول: لقد قال في الآية السابقة : ﴿وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. وقال في هذه الآية: ﴿وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾. فلم ذاك؟ والجواب ظاهر، فقد ذكر الإيمان في الآية السابقة فقال:﴿ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ﴾ فناسب أن يقول في خاتمتها:﴿وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فذكر العذاب الأليم للكافرين؛ لأن الكفر نقيض الإيمان. وأما هذه الآية فهي في الذين يحادون الله ورسوله، فناسب أن يكون العذاب مهينًا لهم. جاء في (البرهان في متشابه القرآن): ((قوله تعالى:﴿وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وبعده: ﴿وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾ لأن الأول متصل بضده، وهو الإيمان، فتوعدهم على الكفر بالعذاب الأليم الذي هو جزاء الكافرين. والثاني متصل بقوله ﴿كبتوا﴾ وهو الإذلال والإهانة ، فوصف العذاب بمثل ذلك فقال: ﴿وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾)). (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 92: 99)

ﵟ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﵞ سورة المجادلة - 5


Icon