الوقفات التدبرية

﴿يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا...

﴿يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ أَحۡصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ٦﴾ [المجادلة: 6] * * * ﴿ يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ ﴾. متعلق بما قبله ، والمعنى: وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله، بمعنى: أن العذاب المهين إنما هو يوم يبعثهم الله ، على اختلاف التقدير في المتعلق به ، أهو على معنى: وللكافرين يوم يبعثهم الله عذاب مهين، أي: أن اليوم متعلق بالاستقرار الذي تعلق به ﴿للكافرين﴾ الذي هو خبر عن العذاب. أم هو متعلق بـ ﴿مهين﴾ أي: على معنى: وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله، أي: أن الإهانة يوم يبعثهم الله. أو على أنه منصوب بإضمار ﴿اذكر﴾ أي: اذكر ذلك اليوم أو على أنه منصوب بـ ﴿يكون﴾ مضمرًا على أنه جواب لمن سأل: متى يكون عذاب هؤلاء. فقيل له ﴿يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ﴾ أي: يكون في يوم يبعثهم. ولا يجيز النحاة على العموم أن يكون ﴿اليوم﴾ متعلقًا بالعذاب في نحو هذا التعبير؛ ذلك لأنه المصدر لا يعمل عندهم إذا فصل بينه وبين معموله بتابع، ومن ذلك الوصف ، وما ورد من ذلك مؤول. واستثنى بعضهم الظرف من ذلك. وعلى أية حال فإن العذاب المهين إنما هو في ذلك اليوم. ﴿جَمِيعٗا﴾. حال، وتحتمل أن تكون هذه الحال مؤكدة، أي: يبعثهم كلهم، كما تحمل أن تكون مؤسسة ، أي: يبعثهم مجتمعين. والمعنيان مرادان ، فربنا يبعثهم كلهم ويجمعهم في صعيد واحد، وهو من التوسع في المعنى. ﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ﴾. ((تخجيلًا لهم وتوبيخًا وتشهيرًا بحالهم، يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد)). جاء في (روح المعاني): ((﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ﴾ من القبائح ببيان صدورها عنهم، أو بتصويرها في تلك النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الأشهاد تخجيلًا لهم وتشهيرًا بحالهم، وزيادة في خزيهم ونكالهم)). ﴿أَحۡصَىٰهُ ٱللَّهُ﴾. ((أحصاه بجميع تفاصيله وكميته وكيفيته وزمانه ومكانه)) وقد ((أحاط به عددًا لم يفته منه شيء)) ﴿وَنَسُوهُۚ﴾. ((لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه لم يبالوا به لضراوتهم بالمعاصي ، وإنما تحفظ معظمات الأمور)). وجاء في (البحر المحيط): ((ونسوه لاستحقارهم إياه واعتقادهم أنه لا يقع عليه حساب)). ﴿وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ﴾. ((لا يغيب عنه أمر من الأمور أصلًا)). قد تقول: لقد قال في آية المجادلة هذه: ﴿وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ﴾. وقال في سورة الحج:﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ١٧﴾ [الحج: 17] فقال:﴿إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيد﴾ فأكد بـ ﴿إن﴾ دون آية المجادلة. فلم ذاك؟ فنقول: إن كل تعبير مناسب للموضع الذي ورد فيه من أكثر من جهة: 1- فقد ذكر في آية الحج جميع الملل من الذين آمنوا ومن اليهود والنصارى وغيرهم ممن ذكرهم في الآية. أما في آية المجادلة فذكر الذين يحادّون الله ورسوله، وهم الذين في زمن الرسول. ثم قال:﴿وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ﴾. فقد جمع في آية الحج الذين آمنوا مع أهل الأديان والملل الأخرى وغيرهم من المشركين. وواضح أن الذين يفصل بينهم في آية الحج أكثر بكثير، فإن آية المجادلة في الذين يحادّون الله ورسوله، وهم مجموعة قليلة بالنسبة إلى المذكورين في آية الحج. 2- ذكر في آية المجادلة أنه ينبئهم بما عملوا. وذكر في آية الحج أنه يفصل بينهم ، والفصل أوسع من مجرد التنبيء. فإنه ينبئ ثم يفصل؛ لأنه من مقتضيات الفصل التنبئ. 3- قال في آية المجادلة ﴿فَيُنَبِّئُهُم﴾ فلم يؤكد الفعل. وقال في آية الحج:﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ﴾ فأكد ذلك بإن. 4- ذكر في آية المجادلة ما عملوه ونسوه فقال:﴿أَحۡصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُۚ﴾ أما في آية الحج فالفصل يكون فيما ذكروه وما نسوه من الأعمال. فهو أعم وأشمل. فناسب التوكيد في آية الحج، والله أعلم. ومن الملاحظ في التعبير القرآني أنه حيث ذكر شهادته سبحانه على كل شيء قدم ﴿على كل شيء﴾ على الشهادة فيقول:﴿إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيد﴾ ﴿وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ﴾ ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا﴾. أما إذا لم تكن الشهادة على كل شيء فيقدم الشهادة على ذلك البعض فيقول:﴿ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ٩٨﴾ [آل عمران: 98] ﴿ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ٤٦﴾ [يونس: 46] ذلك أن الشهادة على كل شيء أمر عظيم متسع لا يترك شيئًا إلا كان شهيدًا عليه ، فيقدم ﴿ على كل شيء﴾ للأهمية. أما إذا لم تكن الشهادة على كل شيء فهي ليست بمنزلة تلك في الاتساع والإحاطة فلا يقدم . ثم إنه سبحانه وحدة الشهيد على كل شيء ، وليست ثمة ذات أخرى شهيدة على كل شيء. أما نحو قوله:﴿وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ﴾ أو ﴿شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُون﴾. فقد يكون هناك من يشهد على عملهم أو فعلهم. فناسب التقديم في نحو قوله:﴿عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ﴾ دون غيره. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 99: 104)

ﵟ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﵞ سورة المجادلة - 6


Icon