الوقفات التدبرية

﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ...

﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ٨﴾ [المجادلة: 8] * * * قيل: ((كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين يريدون أن يغيظوهم ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادوا لمثل فعلهم ، وكان من تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين ، وتواص بمعصية الرسول ومخالفته)). و ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾: الهمزة فيه للتعجيب من حالهم. وقوله:﴿ثُمَّ يَعُودُونَ﴾ بالفعل المضارع للدلالة على تكرار عودهم واستمرارهم فيه. وجاء بـ ﴿ثُمَّ﴾ ليدل على التراخي في الرتبة، فإن العود بعد النهي أدل على المعصية ومخالفة الأمر ، وأدعى إلى التشنيع عليهم ومعاقبتهم. جاء في (التحرير والتنوير): ((و ﴿ثُمَّ﴾ في قوله ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ﴾ للتراخي الرتبي؛ لأن عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنه أعظم من ابتداء النجوى ؛ لأن ابتداءها كان إثمًا لما اشتملت عليه نجواهم من نوايا سيئة نحو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. فأما عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنها فقد زادوا بها تمردًا على النبي ومشاقة للمسلمين)). وقال:﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ﴾ ولم يقل: (ثم يعودون إليها) أو ﴿لها﴾؛ لأن النهي ليس عن أصل النجوى ، وإنما النهي عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وهذا هو ما نهوا عنه كما جاء في الآية ، فقال:﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ﴾ لبيان أن المقصود أن النهي إنما هو عن هذا النوع من النجوى، ولكنهم يعودون إلى ما نهوا عنه ، وليس عن النجوى على العموم. وقال:﴿وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ﴾ أي: يتناجون بما هو إثم في نفسه. وحقيقة التناجي أنه بما يؤدي إلى الإثم، وليس هو الإثم نفسه، ولكنه قال ذلك مبالغة ، فكأن ذلك التناجي هو الإثم بعينه. وقدم الإثم وهو عام يشمل ما بعده وغيره مما هو إثم . ثم ذكر العدوان ، وهو أخص؛ لأنه حالة من حالات الإثم ، وقد يكون أشد مما قبله لأنه تعدّ على الآخرين. ثم قال:﴿وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ﴾ وهو أخص؛ لأنه خالص بالرسول، أما العدوان فقد يكون عامًا. وذكر صفة الرسالة ، ولم يقل: (ومعصيتك) بكاف الخطاب، كما قال:﴿وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ﴾ للدلالة على عظم المعصية؛ فإنها معصية لمن أرسله الله ، وهذه معصية كبيرة؛ فإن المعصية قد تكون بحسب المعصي ، فإن معصية الملك أو معصية رسول الملك ليست كمعصية واحد من عموم الناس. فتدرج من العموم إلى الخصوص. جاء في (نظم الدرر): ((﴿بِٱلۡإِثۡمِ﴾ أي: بالشيء الذي يكتب عليهم به الإثم بالذنب وبالكذب وبما لا يحل. ولما ذكر المطلق أتبعه المقيد بالشدة فقال:﴿وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ أي: العدو الذي هو نهاية في قصد الشر بالإفراط في مجاوزة الحدود. ولما كان ذلك شرًا في نفسه أتبعه الإشارة إلى أن الشيء يتغير وصفه بالنسبة إلى من يفعل معه فيكبر بكبر المعصي فقال:﴿وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ﴾ أي: الذي جاء إليهم من الملك الأعلى ، وهو كامل الرسلية ؛ لكونه مرسلًا إلى جميع الخلق، وفي كل الأزمان ، فلا نبي بعده ، فهو لذلك يستحق غاية الإكرام)). ﴿وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ﴾. يحيونه بقولهم (السام عليك يا أبا القاسم). والسام: الموت. ويقولون في أنفسهم: لو كان رسولًا لعذبنا الله تعالى بسبب ما نقول. وتحية الله هي السلام ، وقد حيا الله بها رسله ((وأشير إليها بقوله تعالى:﴿وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ﴾ ﴿وَسَلَٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَىٰٓۗ﴾ وما جاء في التشهد: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)). والملاحظ ان المذكور في الآية من الإثم إنما هو في باب الكلام والحديث. فالنجوى إنما هي حديث وكلام ، والتحية إنما هي كلام ، وقولهم في أنفسهم إنما هو كلام ، فإنهم يقولون ذلك. ثم إن النجوى كلام مع الآخرين، ولا تكون إلا من أكثر من واحد. والتحية في الآية إنما هي لواحد ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم . والقول في النفس إنما هي قول الشخص لنفسه. فتدرج من العموم إلى الخصوص أيضًا. فما تناجوا به ذكر من العموم إلى الخصوص. والمخاطبون ذكروا من العموم إلى الخصوص. حتى إنَّ ذِكْر العذاب متدرج، فقد قال:﴿حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ﴾ أي: يكفيهم ذلك، ولم يقل كيف. ثم قال:﴿يَصۡلَوۡنَهَاۖ﴾ فخصص ذلك بالصليّ. وقال:﴿يَصۡلَوۡنَهَاۖ﴾ ولم يقل: ﴿يدخلونها﴾ لأن الصليّ إنما هو مقاساة الحر وليس مجرد الدخول، فهو أخص. ﴿حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ﴾. فهي تكفي لعذابهم. ﴿يَصۡلَوۡنَهَاۖ﴾. يدخلونها ويقاسون حرها. ﴿فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ﴾: ما صاروا إليه وهي عاقبتهم. جاء في (البرهان) للكرماني: ((قوله تعالى:﴿جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ﴾ بالفاء لما فيه من معنى التعقيب ، أي: فبئس المصير ما صاروا إليه ، وهو جهنم)). قد تقول: لقد قال في هذه الآية: ﴿حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ﴾ وقال في سورة النور:﴿لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعۡجِزِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ٥٧﴾ [النور: 57] فقال في سورة المجادلة:﴿فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ﴾. وقال في سورة النور:﴿وَلَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ﴾ فجاء باللام المؤكدة، وهي واقعة في جواب قسم مقدر ، فكأنه قال: (والله لبئس المصير). ولم يأت باللام في آية المجادلة ، فما الفرق؟ والجواب: أن السياق ف كل موضع يبين ذلك. فقد قال في سياق آية النور: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ٥٥﴾. فذكر سبحانه أنه وعد الذين آمنوا بالاستخلاف في الأرض وتمكين دينهم وأن يبدلهم بعد خوفهم أمنًا، وذلك كله يعني هزيمة الكفر وخذلانه ، ونصر المؤمنين عليهم والتمكين لهم في الأرض. ثم قال:﴿لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعۡجِزِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ﴾ أي: لا يستطيعون الهرب منا ، وأنهم يفوتوننا فلا ندركهم ، فنحن ندركهم أينما هربوا. جاء في (تفسير أبي السعود) في هذه الآية: ((أي: لا تحسبنهم معجزين الله عن إدراكهم وإهلاكهم في قطر من أقطار الأرض بما رحبت وإن هربوا كل مهرب)). فهم منهزمون في الدنيا، هاربون مخذولون، وفي الآخرة مأواهم النار، والهارب يحتاج إلى مأوى يأوي إليه، فذكر أن مأواهم النار، فبئس المصير مصيرهم في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا الهزيمة والذل، وفي الآخرة النار، فأكد سوء مصيرهم. جاء في (تفسير أبي السعود): ((﴿وَلَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ﴾ جواب لقسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف ، أي: وبالله لبئس المصير هي، أي: النار. وفي إيراد النار بعنوان كونها مأوى ومصيرًا لهم إثر نفي قوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب من الجزالة مالا غاية وراءه ، فلله در شأن التنزيل)). وليس السياق كذلك في آية المجادلة، وإنما السياق في النجوى كما مر، فكان كل تعبير هو المناسب في سياقه. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 111: 117)

ﵟ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ۚ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﵞ سورة المجادلة - 8


Icon