الوقفات التدبرية

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَنَٰجَيۡتُمۡ فَلَا...

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَنَٰجَيۡتُمۡ فَلَا تَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ٩﴾ [المجادلة: 9] * * * خاطب المؤمنين أنهم إذا تناجوا في خلواتهم فلا يتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول كما يفعل المنافقون، و(بدأ بالإثم لعمومه ، ثم بالعدوان لعظمته في النفوس ؛ إذ هي ظلامات العباد ، ثم ترقى إلى ما هو أعظم وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي هذا طعن على المنافقين إذ كان تناجيهم في ذلك)). وجاء في (التفسير الكبير): ((﴿فَلَا تَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡإِثۡمِ﴾ وهو ما يقبح مما يخصهم ،﴿وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ وهو يؤدي إلى ظلم الغير ،﴿وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِ﴾ وهو ما يكون خلافًا عليه. وأمرهم أن يتناجوا بالبر الذي يضاد العدوان ، وبالتقوى ، وهو ما يتقى به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي)). ومن الملاحظ في التعبير القرآني أنه لم يستعمل (المعصية) إلا في معصية الرسول، واستعمل (العصيان) عامًا ، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡيَانَۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّٰشِدُونَ٧﴾ [الحجرات: 7] فاستعمل في الآية:﴿ٱلۡفُسُوق﴾ ولم يستعمل: ﴿الفسق﴾ ذلك أن الفسوق استعمله القرآن لما هو أعم من الفسق. فإن ﴿الفسق﴾ استعمله القرآن في سياق الأطعمة، وبخاصة الذبائح. أما ﴿الفسوق﴾ فاستعمله في الخروج عن طاعة الله عامة. فاستعمل ﴿الفسوق﴾ وهو عام مع (العصيان) وهو عام. ونظير ذلك في الخاص والعم: المغفرة والغفران ، والمرضاة والرضوان ، وغيرهما. ﴿وَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ﴾. البر يقابل الإثم والعدوان، فهو جماع للخير ما كان للنفس وما كان للغير ، كما قال تعالى: ﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ١٧٧﴾ [البقرة: 177] ﴿وَٱلتَّقۡوَىٰۖ﴾: ((حفظ النفس عما يؤثم وذلك بترك المحظور)). ومن ذلك اتقاء معصية الرسول ، فاتقاء معصية الرسول إنما هو من التقوى. جاء في (تفسير البيضاوي): (( وتناجوا بالبر والتقوى بما يتضمن خير المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول)). لقد طلب ربنا هاهنا التناجي بالبر والتقوى ، والنهي عن التناجي بالإثم والعدوان ، وطلب في موضع آخر التعاون على البر والتقوى ، والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان ، قال تعالى:﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ٢﴾ [المائدة: 2] والتناجي قول، والتعاون عمل. فجمع الخير كله في الأمر والنهي في القول والعمل. وقد ذكر في آية المجادلة التناجي. وذكر في سورة المائدة التعاون. لأن السياق في المجادلة إنما هو في التناجي والنجوى. وأما السياق في المائدة ففي الاعمال من الأمر بالوفاء بالعقود وما أحله الله لهم من الأنعام وفي ابتغاء الفضل من الله والرضوان ونحو ذلك . فناسب الأمر بالتعاون على الخير ، والنهي عن التعاون على السوء. فناسب كل تعبير سياقه الذي ورد فيه. ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾. ((فيما تأتون وتذرون)). لقد أمر ربنا في الآية الكريمة بالتناجي بالبر والتقوى، ثم قال:﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ ، فإن الأمر بالتناجي بالتقوى إنما ذلك بالقول. وقوله:﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ يعني: الأمر بالتقوى في العمل والقول، فجمع في ذلك طلب التقوى في القول والعمل. جاء في (نظم الدرر): (( ولكا كانت التقوى أم المحاسن أكدها ونبه عليها بقوله:﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ أي: اقصدوا قصدًا يتبعه العمل أن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية)). ﴿ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾. أي: تحشرون إليه خاصة لا إلى غيره ((أي: تجمعون بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره، وهو يوم القيامة)) ((فيجازيكم على ذلك)). وقدم الجار والمجرور ﴿إليه﴾ على الفعل ﴿تحشرون﴾ لإفادة الحصر. قد تقول: لقد قال في هذه الآية ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ﴾. فذكر الحشر إليه. وقال في آية المائدة:﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ فوصفه بأنه شديد العقاب. فلم ذاك؟ والجواب أن ما ذكره في المائدة من المحظورات أكثر وأشد مما ذكره في المجادلة. فقد نهى في المجادلة عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. وأما في المائدة فقد نهى عن التعاون على الإثم والعدوان. والتعاون على الإثم والعدوان أشد من التناجي في ذلك، فإن التناجي إنما هو قول، وأما التعاون فهو فعل للإثم والعدوان والتعاون عليه. وذكر إضافة إلى ذلك النهي عن أن يحلّوا شعائر الله وما ذكره من نحو ذلك في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ﴾. ثم نهاهم عن أن يحملهم بغضهم لقوم أساؤوا إليهم على العدوان فقال: ﴿وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَ‍َٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ﴾ فلما زاد في ذكر المحظورات والنهي عنها زاد في التحذير فقال:﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾. فناسب كل تعبير موضعه الذي ورد فيه. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 117: 122)

ﵟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﵞ سورة المجادلة - 9


Icon