﴿۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مَّا هُم مِّنكُمۡ وَلَا مِنۡهُمۡ وَيَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ١٤ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدًاۖ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ١٥﴾ [المجادلة: 14-15]
* * *
﴿۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم ﴾.
قوله: ﴿۞أَلَمۡ تَرَ﴾ للتعجيب من القوم المذكورين، وهم المنافقون ، وكانوا يتولون اليهود ، وهم الذين غضب الله عليهم كما أخبر ربنا عنهم في عدة آيات ، من ذلك قوله تعالى:﴿ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ ﴾ [المائدة: 60] وقوله:﴿ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۗ ﴾ [البقرة: 61] وقوله:﴿ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٖۚ ﴾ [البقرة: 90] .
فكانوا يوالونهم ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين.
﴿مَّا هُم مِّنكُمۡ﴾.
أي: إن هؤلاء المنافقين ليسوا منكم أيها المسلمون.
أي:﴿وَلَا مِنۡهُمۡ﴾ ولا من اليهود، وإنما هم كالشاة العائرة بين الغنمين كما ذكر الحديث الشريف ، فهم مذبذبون بين ذلك ، كما قال ربنا سبحانه فيهم: ﴿مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ ﴾ [النساء: 143]
لقد قال:﴿مَّا هُم مِّنكُمۡ﴾ فنفى بـ ﴿ما﴾ ولم يقل: (ليسوا منكم) لأن ﴿ما ﴾ أقوى من ﴿ليس﴾ فهي قد دخلت على الجملة الاسمية ونفتها . وأما القول: (ليسوا منكم) فهي جملة فعلية، والاسمية أقوى.
ثم إن هذا مناسب لما بعده، وهو قوله:﴿وَيَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ﴾ ، فناسب حلفهم على الكذب أن ينفي بـ ﴿ما﴾ التي هي رد لقولهم وتوكيد للنفي.
فقد أكد النفي بـ ﴿ما﴾ كما أكدوا قولهم بالحلف.
﴿وَيَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾.
أي: يحلفون على الكذب فيما أسند إليهم من الأفعال التي فعلوها ، فيحلفون أنهم لم يفعلوها ، ويحلفون على ادّعاء الإسلام وهم كاذبون.
جاء في (الكشاف): ((أي: يقولون والله إنا لمسلمون ، فيحلفون على الكذب الذي هو ادعاء الإسلام ( وهم يعلمون) أن المحلوف عليه كذب بحت)).
إنه لم يقل: ( ما هم منكم ولا منهم وإنما هم يكذبون) بل قال:﴿وَيَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ فهم أقسموا على ذلك ، وهذه تسمى (اليمين الغموس) وهي التي تغمس صاحبها في نار جهنم.
واليمين الغموس أن تحلف على أمر وأنت تعلم خلافه.
جاء في (الكشاف) ((فإن قلت: فما فائدة قوله:﴿وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ ؟
قلت: الكذب أن يكون الخبر لا على وفاق المخبر عنه ، سواء علم
المخبر أو لم يعلم.
فالمعنى أنهم الذين يخبرون وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه ، وهم عالمون بذلك ، متعمدون له؛ كمن يحلف بالغموس)).
وقال:﴿وَيَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ﴾ بصيغة المضارع للدلالة على تكرار الحلف الكاذب.
﴿أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدًاۖ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾.
أي: أعد الله لهم العذاب الشديد بسبب استمرارهم ، واعتيادهم العمل السيّء.
فقوله:﴿إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُون﴾ يفيد الماضي المستمر، أي: كانوا مستمرين على الأعمال السيئة، فناسب ذلك أن يكون عذابهم شديدًا. جاء في (الكشاف):
((﴿إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُون﴾ يعني: أنهم كانوا في الزمان الماضي المتطاول على سوء العمل، مصرين عليه، أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة)).
وجاء في (روح المعاني): ((﴿أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ﴾ بسبب ذلك ﴿عَذَابٗا شَدِيدًاۖ﴾ نوعًا من العذاب متفاقمًا.
﴿إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُون﴾ ما اعتادوا عليه وتمرنوا عليه)).
(من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 134: 137)
ﵟ ۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﵞ سورة المجادلة - 14