الوقفات التدبرية

﴿لَّن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ...

﴿لَّن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ١٧﴾ [المجادلة: 17] * * * هذه الآية مناسبة لقوله تعالى قبلها:﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ جُنَّةٗ﴾ ((فكما لم تقهم أيمانهم العذاب لم تغن عنهم أموالهم ولا أنصارهم شيئًا يوم القيامة)). ومعنى ﴿لَّن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ﴾ لن تنفعهم أو تدافع عنهم وتمنعهم من العذاب. ﴿أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم﴾. ذكر الأموال والأولاد؛ لأنها مظنة المنع وجلب المصالح والنصرة، فذكر المال والقوة، وبهما تتحقق المنافع ودفع المضار. فقال لهم: إنه لن تنفعهم أموالهم ((التي أعدوها لدفع المضار وجلب المصالح. ﴿ولا أولادهم﴾ الذين يتناصرون بهم في الأمور المهمة، ويعولون عليهم في المهمات المدلهمة، وتأخيرهم عن الأموال مع توسيط حرف النفي – كما قال شيخ الإسلام – إما لعراقتهم في كشف الكروب، أو لأن الأموال أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب)). وقدم المال لأنه أبلغ في النفع والدفع وجلب المصالح من الأولاد. جاء في (البحر المحيط): ((ولما كان المال في باب المدافعة والتقرب، والفتنة أبلغ من الأولاد قدم في هذه الآية، وفي قوله:﴿وَمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُم بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمۡ عِندَنَا زُلۡفَىٰٓ﴾ وفي قوله:﴿إِنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞۚ﴾ وفي قوله:﴿وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ﴾ وفي قوله:﴿لَا يَنفَعُ مَالٞ وَلَا بَنُونَ﴾ بخلاف قوله:﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ ﴾ إلى آخرها، فإنه ذكر هنا حب الشهوات، فقدم فيه النساء والبنين على ذكر الأموال)). وأعاد النافي فقال:﴿وَلَآ أَوۡلَٰدُكُم﴾ للتوكيد، وليفيد أنه لا تنفع الأموال وحدها ولا الأولاد وحدهم ولا مجموعهم. فإنه قد يذكر عدم الإغناء للمال ولا يذكر معه الأولاد وذلك نحو قوله تعالى:﴿فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ٨٤﴾ [الحجر: 84] وقوله:﴿ وَلَا يُغۡنِي عَنۡهُم مَّا كَسَبُواْ شَيۡ‍ٔٗا ﴾ [الجاثية: 10] وقوله:﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ٢٨﴾ [الحاقة: 28] وقوله:﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ٢﴾ [المسد: 2] وقد يذكر الأولاد ولا يذكر الأموال كقوله تعالى: ﴿ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيۡ‍ًٔاۚ ﴾ [لقمان: 33] وقوله: ﴿يَوۡمَ يَفِرُّ ٱلۡمَرۡءُ مِنۡ أَخِيهِ٣٤ وَأُمِّهِۦ وَأَبِيهِ٣٥ وَصَٰحِبَتِهِۦ وَبَنِيهِ٣٦﴾ [عبس: 34-36] فذكر الأموال والأولاد جميعًا في الآية، وذكر أنها لا تغني من الله شيئًا في كل الأحوال. جاء في (نظم الدرر): ((وأكد بإعادة النافي ليفيد النفي عن كل حالة وعن المجموع، فيكون أصرح في المرام)). وقوله: ﴿من الله﴾ أي: من عذابه وبأسه، أو من جهته، فـ ﴿من﴾ لابتداء الغاية. وذهب الزمخشري إلى أنها بمعنى بدل، أي: بدل رحمته وطاعته، وبدل الحق. والتعبير يحتمل، وكأن معنى الابتداء أظهر، والله أعلم. ﴿شَيۡ‍ٔٗا﴾. يحتمل أن يكون المعنى شيئًا من الإغناء، فيكون النصب على المصدرية، وأن يكون المعنى: شيئًا من الأشياء، فيكون مفعولًا به. والمعنيان مرادان، فهي لا تغني من الله شيئًا من الإغناء ، ولا شيئًا من الأشياء، والله أعلم. ﴿أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾. ﴿أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ﴾ أي: ملازموها ملازمة دائمة؛ ولذا أكد ذلك بقوله: ﴿هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾. وجاء بالجملة الاسمية للدلالة على الثبوت، و﴿هم﴾ يحتمل أن يكون ضمير فصل للاختصاص ، ويتحمل أن يكون مبتدأ. قد تقول: لقد قال في آية المجادلة هذه ﴿أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾. وقال في آل عمران:﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ١١٦﴾ [آل عمران: 116] فقال في آية المجادلة:﴿ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ ﴾. وقال في آية آل عمران:﴿ وَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ ﴾ بذكر الواو. فما الفرق؟ فنقول: إن السياق في كل تعبير يوضح ذلك. فسياق الكلام في آل عمران إنما هو في أهل الكتاب، ومما قاله في السياق فيهم:﴿لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذٗىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ١١١﴾. فذكر أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم شيئًا في الدنيا، ذلك أنهم سيغلبون فيها، وفي الآخرة هم أصحاب النار. فدل ذلك على أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم في الدنيا ولا في الآخرة. ونحو ذلك قوله تعالى في آل عمران:﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ وَقُودُ ٱلنَّارِ١٠﴾ وهو إشارة إلى أنهم سيغلبون في الدنيا، فلا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم فيها، وفي الآخرة هم وقود النار. ويدل على ذلك السياق ، فقد قال بعدها:﴿كَدَأۡبِ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ١١ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ١٢﴾. فقد ذكر أنهم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم، فقد عاقبهم الله سبحانه في الدنيا وسيعاقبهم في الآخرة. وكما قال في الآية بعدها:﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ١٢﴾ فهم سيغلبون في الدنيا ويحشرون إلى جهنم في الآخرة، فلا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم في الدنيا ولا في الآخرة. فالواو عطف أو استئناف. جاء في (نظم الدرر) أنهم ((ليست مغنية عنهم تلك النعم شيئًا، وأنهم مغلوبون لا محالة في الدنيا، ومحشورون في الآخرة إلى جهنم)). أما آية المجادلة فهي في المنافقين، فذكر عدم الإغناء على العموم، ولم يعطف فإنهم لم يحاربوا الرسول في الدنيا حرب قتال، بل كانوا يظهرون له أنهم معه. فجاء بالتعبير عامًا يعم الدنيا والآخرة في عدم الإغناء. ولم يعطف أو يستأنف؛ فإنهم إن نجوا في الدنيا فلن ينجوا في الآخرة، فناسب كل تعبير سياقه. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 139: 144)

ﵟ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﵞ سورة المجادلة - 17


Icon