الوقفات التدبرية

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ...

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ١ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ٢ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ٣ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعۡلِنُونَۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ٤﴾ * * * ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِير﴾. ذكر في هذه الآية: أنه يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض، أي: ينزهونه عن كل نقص. وأنه له الملك. وله الحمد. وهو على كل شيء قدير. والذي ينزَّه إنما هو ذو الملك والقدرة. فكلما كان الملك ملكه أوسع، والمقتدر أعظم؛ كان التنزيه أدّل على مدحه، أما إذا لم يكن مالكًا لشيء، وليس ملكًا على شيء، ولا قادرًا على شيء؛ فلا معنى لتنزيهه. وكذلك بالنسبة إلى الحمد؛ فإنه كان الملك الأوحد والقدير الأعظم محمودًا في ملكه وقدرته، وفي عموم ما يحمد عليه؛ دل ذلك على كماله في صفاته؛ إذ قلما يسلم ملك من ملوك الأرض والقدير من أهل الأرض من مأخذ فلا يحمد من كل وجه، ولا ينزه من كل وجه، ولا ينزهه عموم رعيته، بل هناك من له مأخذ عليه. أما الله سبحانه فإنه ينزهه أهل السماوات والأرض، وهو المحمود على كل حال. إن هذه الآية تناسب قوله في خواتيم السورة التي قبلها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ٩﴾ [المنافقون: 9]. فإنه طلب من الذين آمنوا ألا يلهيهم المال والولد عن ذكر الله، وذلك يناسب تسبيح ما في السماوات والأرض، وكأن قوله: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ﴾ تعليل لطلب الذكر من المؤمنين، وألا تلهيهم الأموال والأولاد عن ذكر الله، فإن ما في السماوات والأرض يسبحون الله ويذكرونه، فاذكروه أنتم أيها المؤمنين. فيتوافق جميع ما في الكون في تسبيح الله سبحانه وذكره. وقد ذكرنا في أكثر من مناسبة أن تكرار ﴿ما﴾ في آيات التسبيح يدل على أنه يعقب الآية بذكر أهل الأرض، وأنه لم يكرر ﴿ما﴾ لا يذكر شيئًا يتعلق بأهل الأرض. وقد كرر ﴿ما﴾ في هذه الآية فأعقبها بالكلام على أهل الأرض فقال: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ﴾. ثم إن السورة ابتدأت بالفعل المضارع ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾، وقد ذكرنا أيضًا في أكثر من مناسبة أن كل سورة تبدأ التسبيح بالفعل الماضي، أي: ﴿سبح لله﴾ يجري فيها ذكر للقتال بخلاف ما يبدأ بالفعل المضارع، أي: ﴿يسبح لله﴾. وهذه السورة بدأت بالفعل المضارع، فلم يجر فيها ذكر للقتال، وهو السمت العام في هذه السورة. وقدم الجار والمجرور في قوله: ﴿لَهُ ٱلۡمُلك﴾ للدلالة على الاختصاص والقصر، فإنه له الملك حصرًا على الحقيقة، أما غيره فملكهم من تمليكه سبحانه لهم، كما قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ٢٦﴾ [آل عمران: 26]. وكذلك قوله: ﴿وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ﴾ فإنه له الحمد حصرًا، فهو مولي النعم كلها، وكل من عداه مفتقر إليه وإلى نعمه، فله الحمد حصرًا لا لغيره على الحقيقة، أما حمد غيره لأنه سبحانه أجرى النعمة على يده، فكل حمد لغيره إنما هو بسبب نعمته سبحانه. جاء في (روح المعاني): ((﴿لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ﴾ لا لغيره تعالى؛ إذ هو جل شأنه المبدئ لكل شيء، وهو القائم به والمهيمن عليه، وهو عز وجل المولي لأصول النعم وفروعها، وأما ملك غيره سبحانه فاسترعاء منه وتسليط. وأما حمد غيره تبارك وتعالى فلجريان إنعامه تعالى على يده، فكلا الأمرين له تعالى في الحقيقة، ولغيره بحسب الصورة. وتقديم ﴿لَهُ ٱلۡمُلْكُ﴾ لأنه كالدليل لما بعده)). وجاء في (الكشاف): ((قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل؛ لأن الملك على الحقيقة له؛ لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه والقائم به والمهيمن عليه، وكذلك الحمد؛ لأن أصول النعم وفروعها منه وأما ملك غيره فتسليط منه، واسترعاء، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده)). وجاء في (التفسير الكبير) للفخر الرازي: ((وقوله تعالى: ﴿لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ﴾ معناه: إذا سبح لله ما في السماوات وما في الأرض فله الملك وله الحمد. ولما كان له الملك فهو متصرف في ملكه، والتصرف مفتقر إلى القدرة فقال: ﴿وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾. ومن لطفه التناسب في هذا المفتتح وما بعده من الآيات: 1 – أنه قال بعدها: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ﴾. والذي يفعل هذا إنما هو على كل شيء قدير، وهو الذي ذكره في الآية الأولى. 2 – ثم قال: ﴿خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ﴾. فقوله: ﴿خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ﴾ يناسب قوله: ﴿لَهُ ٱلۡمُلۡكُ﴾. وقوله: ﴿بِٱلْحَقِّ﴾ ينساب قوله: ﴿وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ﴾ فالذي يفعل ذلك بالحق إنما له الحمد. وقوله: ﴿وَإِلَيۡهِ ٱلْمَصِير﴾ يناسب قوله: ﴿وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ ويناسب قوله: ﴿لَهُ ٱلۡمُلۡكُ﴾. ويناسب ما ذكره بعد ذلك من مصير الكافرين والمؤمنين في الآخرة في قوله: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ٩ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ١٠﴾ [التغابن: 9-10]. وقوله: ﴿خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلْحَقِّ﴾ يناسب قوله: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ فإن ذلك يفيد تنزيهه عن الباطل. 3 – وقال بعد ذلك: ﴿يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعۡلِنُونَۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُور﴾. فالذي له الملك ينبغي أن يعلم ما في ملكه. وتمام العلم أن يعلم ما يسر عباده وما يعلنون، ويعلم ما في الصدور، والذي يعلم ذلك له الحمد وهو على كل شيء قدير. وينبغي أن يسبحه ما في السماوات وما في الأرض. كما ناسب مفتتح السورة خاتمتها ((فقد قال في أول السورة: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِير﴾. وقال في آخرها: ﴿عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾. فكلتا الآيتين في الله وصفاته. فقوله في الآية الأولى: ﴿لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ يناسب قوله في آخر السورة: ﴿عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾. فالذي له الملك هو العزيز، وهو الحكيم من الحكم. والذي له الحمد هو الحكيم من الحكمة، وهو الذي ينزهه أهل السماوات والأرض ويسبحونه. والذي له الملك وله الحمد ينبغي أن يكون عالمًا بما في ملكه لا يندّ عنه شيء، فقال سبحانه: ﴿عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ﴾. وقال في أوائل السورة: ﴿مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعۡلِنُونَۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُور﴾. والذي يعلم ذلك هو عالم الغيب والشهادة المذكور في آخر آية من السورة. ثم ذكر الذين كفروا بعد ذلك بقوله: ﴿أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمۡرِهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾ وما بعدها. وذكر بعدها الذين آمنوا إلى خواتيمها فقال: ﴿وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ١١ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ١٢﴾. وذلك إلى نهاية السورة. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 159: 165)

ﵟ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﵞ سورة التغابن - 1


Icon