الوقفات التدبرية

﴿فَ‍َٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلنُّورِ ٱلَّذِيٓ...

﴿فَ‍َٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلنُّورِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلۡنَاۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ٨﴾ * * * دعاهم إلى الإيمان بالله ورسوله وما أنزل إليه؛ لينجوا من عذاب الله في الدنيا والآخرة. فقد ذكر نبأ الذين كفروا من قبلهم، وأنهم ذاقوا وبال أمرهم في الدنيا، وأن لهم عذابًا أليمًا في الآخرة. وذكر ما زعمه الذين كفروا من عدم إيمانهم بالبعث وما سيجره عليهم عدم الإيمان، فدعاهم إلى الإيمان؛ لينجوا من عذاب الله ويفوزوا. وذكر الإيمان والرسول وما أنزل إليه وسماه نورًا فقال: فذكر النور مناسبة لما مر قبلها وهو وقوله: ﴿وَٱلنُّورِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلۡنَاۚ﴾. والنور إنما هو للهداية، فهو مناسب لقوله: ﴿أَبَشَرٞ يَهۡدُونَنَا﴾. ومناسب لقوله: ﴿كَانَت تَّأۡتِيهِمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ﴾ لأن الأمور تتضح وتتبين بالنور، والبينات إنما هي النور. وهو مناسب لقوله بعدها: ﴿وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ﴾. والنور إنما هو للهداية، والإيمان نور، قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ﴾ [البقرة: 257]. وقال: ﴿وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا صُمّٞ وَبُكۡمٞ فِي ٱلظُّلُمَٰتِۗ﴾ [الأنعام: 39]. فذكر أن الذين كفروا في الظلمات. جاء في (تفسير الرازي) في قوله: ﴿وَٱلنُّورِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلۡنَا﴾ ((وهو القرآن، فإنه يهتدي به في الشبهات كما يهتدي بالنور في الظلمات)). وجاء في (روح المعاني): ((﴿وَٱلنُّورِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلۡنَا﴾ وهو القرآن، فإنه بإعجازه مبين لغيره، كما أن النور كذلك، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز العناية بأمر الإنزال، وفي ذلك من تعظيم شأن القرآن ما فيه)). ﴿وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِير﴾. الخبير: هو العالم ببواطن الأمور. وناسب هذا ما جاء في الآية التي قبلها: ﴿ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ﴾، وقال ههنا: ﴿وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ فكأن معنى هذه الآية تتمة لمعنى الآية التي قبلها، وكأنهما متتاليتان. فلو قيل: (ثم لتنبؤن بما عملتم والله بما تعملون خبير) لكان في غاية الحسن والمناسبة. وقد بنى الفعل في الآية السابقة للمجهول فقال: ﴿لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ﴾ وقد بين في هذه الآية من الذي ينبئ ويعلم بواطن الأمور، وقدم ﴿بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ على ﴿خَبِير﴾ لأن السياق في العمل؛ فقد قال في أوائل السورة: ﴿وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِير﴾، وقال فيما بعد: ﴿ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ﴾، وقال بعدها: ﴿وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَيَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا﴾ فناسب تقديم العمل. وقد ذكرنا في كتابنا (من أسرار البيان القرآني) أنه ((إذا كان السياق في عمل الإنسان قدم عمله فيقول: ﴿بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِير﴾. وإذا كان السياق في غير العمل، أو كان في الأمور القلبية، أو كان الكلام على الله؛ قدم صفته فيقول: ﴿وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾. وقد ضربنا لذلك أمثلة فلا نعيد القول فيه. وقل هاهنا: ﴿وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ فذكر الخبرة. وقال في آية سابقة: ﴿وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فذكر البصر. ولعل من أسباب ذلك أنه في الآية السابقة ذكر الخلق فقال: وذلك مما يبصر فقال: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ﴾ وقال بعدها: ﴿خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡۖ﴾ وكل ذلك مما يبصر، فناسب ذكر البصير. وأما الآية التي ذكرت فيها الخبرة فهي في الإيمان، قال تعالى: ﴿فَ‍َٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلنُّورِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلۡنَاۚ﴾ ، والإيمان أمر قبلي، فناسب ذكر الخبرة، وهي العلم ببواطن الأمور. وأضاف الرسول إلى ضميره سبحانه تعظيمًا له. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 187: 190)

ﵟ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﵞ سورة التغابن - 8


Icon