الوقفات التدبرية

﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَمَن...

﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ١١﴾ [التغابن: 11] * * * أطلق الإصابة فلم يذكر مفعولًا أو مكاناً لها أو زمانًا أو غير ذلك، فلم يقل ﴿ما أصابكم﴾ أو نحوه، ولم يقل ﴿في الأرض﴾ أو ﴿يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ﴾ أو غير ذلك. وجاء ب﴿من﴾ الاستغراقية، فحيثما حلّت مصيبة؛ فإن ذلك لا يكون إلا بإذنه وأمره. قد تقول: لقد قال في سورة الحديد: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ﴾ [الحديد: 22]. فزاد ﴿فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ﴾ على ما في التغابن ((وذلك لأنه فصل في سورة الحديد في أحوال الدنيا والآخرة ما لم يفصله في التغابن، فكان المناسب أن يفصل ويزيد موافقة لما قبلها. جاء في سورة الحديد: ﴿ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمٗاۖ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٞۚ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ٢٠ سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ٢١ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ﴾ ولم يرد مثل ذلك في سورة التغابن، قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ١٠ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ﴾. فأنت ترى أنه فصل وذكر في سورة الحديد مالم يذكره في التغابن؛ ولذا زاد في التفصيل في الآية المذكورة موافقة لما قبلها. جاء في (البرهان) للكرماني أنه ((فصل في هذه السورة وأجمل هناك موافقة لما قبلها في هذه السورة، فإنه فصّل أحوال الدنيا والآخرة فيها بقوله: ﴿ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ ﴾ [الحديد: 20]. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن ما ذكره في سورة التغابن أعم مما ورد في سورة الحديد، فقد قال في سورة الحديد: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ﴾ فذكر المصيبة في الأرض أنفس المخاطبين. أما في سورة التغابن فإنه خصص، بل أطلق كما ذكرنا، فقال: وهو يشمل كل شيء يمكن أن تقع فيه مصيبة؛ ولذا ختم بقوله: ﴿وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيم﴾. ﴿وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُ﴾. قال بعد آية الحديد التي ذكر فيها المصيبة في الأرض والأنفس: ﴿لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ﴾. وقال في آية التغابن: ﴿وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥ﴾، ولا شك أن قوله ﴿يَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ﴾ أعم من قوله: ﴿لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ﴾ فإن هذا جزء من هداية القلب، فهداية القلب عامة. ولذا ذكر في تفسير ﴿يَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ﴾ كلام كثير على العموم، وأنه ليس نصًا في أمر واحد، فقد قيل: إن معناه ((يهد قلبه لليقين))، وقيل: ((أي: يلطف به ويشرحه لازدياد الخير والطاعة)). وقيل معناه: ((يهد قلبه عند المصيبة... للتسليم لأمر الله، ونظيره قوله: ﴿ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ﴾ إلى قوله: ﴿وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ﴾. قال أهل المعاني: يهد قلبه للشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء)). وفي (فتح القدير) ((يهد قلبه للصبر والرضا بالقضاء)). إن قوله ﴿يَهۡدِ قَلۡبَهُ﴾ يحتمل كل ما قيل، فهو تعبير عام يحتمل عموم الهداية. وواضح أن هذا أعم من قوله: ﴿لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ﴾. فناسب كل تعبير سياقه الذي ورد فيه، فقد ناسب العمومُ العمومَ في قوله: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ﴾ فأطلق المصيبة وأطلق الهداية. وناسب الخصوصُ الخصوصَ في قوله: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ﴾. فعقب بقوله: ﴿لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ﴾. وهو من لطيف المناسبات. وهو من لطيف التناسب في السياقين أنه قال في آية الحديد: ﴿لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ﴾ وبعدها: ﴿وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ٢٣ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِۗ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ٢٤﴾. وقال قبل آية التغابن: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِير﴾ وبعدها قوله: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ(11)﴾. وواضح أن ما ورد في آية التغابن أعم مما ورد في آية الحديد. فقد قال في آية الحديد: ﴿كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ٢٣ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِۗ﴾. وقال في التغابن: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَآ﴾. ولا شك أن المذكورين في آية الحديد هم قسم ممن لا يحبهم الله. فما ورد في التغابن أعم وأشمل، فقد يدخل المذكورون في سورة الحديد فيمن ذكروا في آية التغابن. فناسب العموم في التغابن ما ذكرناه من العموم. وناسب الخصوص في آية الحديد ما ورد فيها من الخصوص. ومن لطيف ذلك أيضًا ما ورد بعد قوله تعالى في التغابن: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ﴾ وذلك قوله: ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ١٢﴾. وقال بعد آية الحديد: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾. ومن المعلوم أن قوله: ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَۚ﴾ أعم وأشمل من قوله: ﴿لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾ فهذا جزء من إطاعة الله وإطاعة الرسول. فناسب العمومُ العمومَ من جهة أخرى. وناسب الخصوصُ الخصوصَ. ونلخص ما ورد في التناسب في العموم والخصوص في هذين الموطنين من سورة التغابن والحديد بما يأتي: 1 – قوله في التغابن: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ﴾. وقوله في الحديد: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ﴾. وما في التغابن أعم. 2 – قوله في التغابن: ﴿وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥ﴾. وقوله في الحديد: ﴿لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ﴾. وما في التغابن أعم. 3 – قوله في التغابن: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ﴾. وقوله في الحديد: ﴿وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ٢٣ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِۗ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ﴾. وما في التغابن أعم؛ إذ ما في الحديد إنما هو جزء من صفات الذين كفروا وكذبوا. 4 – قوله في التغابن: ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَۚ﴾. وقوله في الحديد: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾. وما في التغابن أعم؛ إذ القيام بالقسط إنما هو جزء من إطاعة الله وإطاعة الرسول. 5 – قوله في التغابن: ﴿وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾. وقوله في الحديد: ﴿إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ﴾. وظاهر أن ما في التغابن أعم، فقد جعل علمه عامًا بكل شيء، وأما في الحديد فالكلام على المصيبة. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 199: 205)

ﵟ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﵞ سورة التغابن - 11


Icon