الوقفات التدبرية

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ﴾ * *...

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ﴾ * * * أي: ما الذي خدعك وجرأك على ربك الكريم الذي خلقك وأفاض عليك بالنعم، القادر على كل شيء، فتعصيه وتخالف أوامره؟ أهذا جزاء كرمه وإحسانه وتفضله عليك؟ أتحسب أن الكريم لا يعاقب من عصاه وأعلن محاربته؟ أيعصي الإنسان ربه الذي أوجده وأحسن إليه وغذاه بالنعم وقام على أمره؟ أهكذا يكون جزاء المربوب للرب؟ وقد قال هاهنا: ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيم﴾ بذكر ﴿الرب﴾، ولم يقل: (ما غرك بالله) وذلك لأن لفظ ﴿الرب﴾ معنى التربية والرعاية والإحسان والسيد ومتولي أمره، فتكون الإساءة إليه بهذا المعنى أقبح وأعظم. فإن من أساء إلى من رباه وأحسن إليه وقام على أمره كانت إساءته أبلغ وأقبح ممن أساء إلى غيره. ثم وصفه بالكرم فقال: ﴿بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيم﴾ ولم يقل ﴿بِرَبِّكَ﴾ من دون وصف؛ لتكون الإساءة أشد، والعصيان أعظم، أفيكون الكرم مدعاة إلى الإساءة والعصيان أم إلى الطاعة؟ ثم ذكر من الصفات ما يبين حمقه وجهله وقبح معصيته. فإنه غره –والله- حمقه وجهله وشيطانه، فقد ((زين له المعاصي، وقال له: افعل ما شئت، فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أولًا، وهو متفضل عليك آخرًا حتى ورطه)). جاء في (روح المعاني): ((أي: أيّ شيء خدعك وجرأك على عصيانه تعالى وارتكاب مالا يليق بشأنه عز شأنه؟ وقد علمت ما بين يديك وما سيظهر من أعمالك عليك والتعرض لعنوان كرمه تعالى دون قهره سبحانه من صفات الجلال المانعة ملاحظتها عن الاغترار للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدارًا لاغتراره حسبما يغويه الشيطان ويقول له: افعل ما شئت، فإن ربك كريم، قد تفضل عليك في الدنيا وسيفعل مثله في الآخرة... بل هو مما يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة، والاجتناب عن الكفر والعصيان، دون العكس)). وجاء في (الكشاف): ((معناه أن حق الإنسان ألا يغتر بتكرم الله عليه، حيث خلقه حيًا لينفعه، وبتفضله عليه بذلك حتى يطمع بعد ما مكنه وكلفه فعصى وكفر النعمة المتفضل بها أن يتفضل عليه بالثواب وطرح العقاب اغترارًا بالتفضل الأول)). قد تقول: لقد قال هاهنا: ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيم﴾ فذكر الرب. وذكر الاغترار بالله في أكثر من موضع فقال: ﴿وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ﴾ وقال: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ﴾ [لقمان: 33[. فما سبب ذاك؟ فنقول: إن السياق مختلف، فإنه في هذه السورة إنما هو في سياق ذكر تعداد النعم عليه، فناسب ذكر الرب. أما في آية الحديد فهي في الآخرة، والكلام موجه من المؤمنين إلى المنافقين، وذكر معاصيهم واستحقاقهم النار، قال تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ١٣ يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ١٤ فَٱلۡيَوۡمَ لَا يُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡيَةٞ وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ مَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُۖ هِيَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِير﴾. فالمقام مختلف. وكذلك في لقمان، فإن المقام مقام تحذير لا مقام تعداد للنعم، فقد قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيۡ‍ًٔاۚ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ٣٣﴾ [لقمان: 33]. وقد تقول: لقد قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ﴾ فذكر الرب. فنقول: إن السياق في ذكر الآباء والأبناء، وأنه لا يجزي أحدهما عن الآخر، والأب هو مرّب لابنه وموجه له ومعلم ومرشد وقيم عليه، فناسب ذكر الرب. وكذلك سياق آية فاطر، فإنها ليست في تعداد النعم، وإنما في تذكيرهم الآخرة، فقد قال: ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ٤ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ﴾. فناسب كل تعبير موضعه. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 231: 234).

ﵟ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﵞ سورة الإنفطار - 6


Icon