الوقفات التدبرية

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) بعد أن عظم القرآن بأن أقسم به...

﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ بعد أن عظم القرآن بأن أقسم به ووصفه بالحكمة عظمه بإضافته إلى ذاته العلية. فإن الكتاب يعظم من ناحيتين: 1- من حيث ما أودع فيه، وهو تعظيم لذاته. 2- ومن حيث مرسله. فقد يكون الكتاب ليس بذي قيمه في ذاته وإنما يعظم بسبب مرسله وصاحبه. ثم إن صاحبه يكون معظماً بسببين: أن يكون مرهوباً مخوفاً أو أن يرجى خيره ويطمع في نعمته. وقد جمع الله ذلك بقوله ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ فجمع بين الترغيب والترهيب وهما مصدر التعظيم للذات وما يتصل بها. فقوله ﴿العزيز﴾ يفيد أنه نافذ أمره. و﴿الرحيم﴾ يفيد أنه ذو رحمة وليس متجبراً عاتياً. ففخم الكتاب وعظمه من الناحيتين: من حيث ذاته. ومن حيث مرسله. جاء في (روح المعاني): تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ نصب على المدح أو على المصدرية لفعل محذوف أي نزل تنزيل ... وأيا كان ففيه إظهار لفخامة القرآن الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية بوصفه بالحكمة. وفي تخصيص الاسمين الكريمين المعربين عن الغلبة الكاملة والرحمة الفاضلة حث على الإيمان به ترهيباً وترغيباً وإشعاراً بأن تنزيله ناشئ عن غاية الرحمة حسبما أشار إليه قوله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (1). وهناك تعظيم آخر للقرآن وهو مكانه المحفوظ فيه فإن الشيء إذا كان ثميناً حفظ في مكان أمين لا تمسه الأيدي ولا يعبث به العابثون. وقد أشار إلى مكانه المحفوظ فيه فذكر أنه في مكان عالٍ وقد نزل إلى الرسول تنزيلاً. فالتنزيل إنما يكون من المكان العالي المرتفع وهذا يدل على رفعة القرآن ورفعة مكانه. وعلى هذا يكون أشار إلى تعظيم القرآن من عدة نواح: 1- الإقسام به. 2- وصفه بأنه حكيم. 3- وأنه في مكان عالٍ وقد نزله العزيز الرحيم بأمره. 4- وأن الله أضافه إلى نفسه بوصفي الترهيب والترغيب فلم يترك جهة من جهة التعظيم إلا أشار إليها وذكرها. واختيار العزيز الرحيم له أكثر من دلاله في السورة. فإن العزيز هو الغالب وفى ذكره ترهيب للعباد، والرحيم هو المتصف بالرحمة على وجه الثبات وفى ذكره ترغيب لهم فجمع بين الترغيب والترهيب. وقد طبعت السورة بطابع هذين الاسمين الكريمين فإن جو السورة يشيع فيه العزة والرحمة. فقد تظهر العزة بنصر أوليائه ومحق أعدائه فقد أهلك أصحاب القرية بصيحة واحدة ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾  -(29). وذكر أن آلهتهم التي يعبدونها من دون الله لا تغني شفاعتهم شيئاً ولا يتمكنون من إنقاذ من أراده الرحمن بضر فهي ليست لها وجاهة وليس لها قوة وهذا من أظهر الأمور على عزته سبحانه ﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ﴾ (23). وقد ذكر أنه إن شاء أغرقهم فلا معين لهم ولا يتمكن أحد من إنقاذهم إلا إذا أراد هو (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) -﴿43-44﴾. وذكر أنهم ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم جميعاً فلا يبقى منهم أحد وأنه يحييهم ويجمعهم بصيحة واحدة ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ -(49). )﴿ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ -(53). وذكر أنه لو شاء أن يطمس على أعينهم أو يمسخهم على مكانتهم لفعل ولا راد لمشيئته (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ) -(66-67). وذكر أن أمره ينفذ بكلمة واحدة يفعل ما يشاء ويكون ما يريد وأنه بيده ملكوت كل شيء وليس لأحد سواه شيء (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)  -(83). فهل هناك أكبر من هذه العزة؟! وكذلك جو الرحمة فإنه يشيع في السورة أيضاً. فقد تردد ذكر الرحمة والرحمن في السورة أكثر من مرة وذلك نحو قوله: 1- تنزيل العزيز الرحيم 2- وخشى الرحمن بالغيب 3- وما أنزل الرحمن من شيء 4- إن يردن الرحمن بضر 5- ولا هم ينقذون إلا رحمة منا 6- لعلكم تُرحمون 7- هذا ما وعد الرحمن 8- سلام قولا من رب رحيم ثم ذكر عدداً من مظاهر رحمته سبحانه منها: 1- ما جعل في الأرض لعباده من جنات وأنهار وما أخرج لهم من حب يأكلون منه. 2- وأنه حمل ذريتهم في الفلك المشحون وخلق لهم من مثله ما يركبون. 3- وأنه خلق لهم أنعاماً فهم مالكون لها وأنه ذللها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون. وجعل لهم فيها منافع ومشارب تستوجب شكره سبحانه. 4- وأنه جعل لهم من الشجر الأخضر ناراً يوقدون منه. 5- وأنه أرسل إليهم رسلاً حذرهم من عباده الشياطين وهداهم الصراط المستقيم. وغير ذلك من مظاهر رحمته التي ذكرها في السورة. وكما لاحظنا أن لهذين الاسمين الكريمين ارتباطا بجو السورة فإن لهذين الاسمين الكريمين ارتباطا بما بعد هذه الآية وهو قوله تعالى: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(7)﴾ إذ من الملاحظ في مواطن عديدة من القرآن الكريم ذكر هذين الاسمين بعد ذكر عدم إيمان الأكثرين من الخلق. فقد عقب في سورة الشعراء بعد قصة كل نبي مع قومه بقوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) كما ذكرت تعقيباً على موقف أهل مكة من الرسول (صلى الله عليه وسلم) وذلك قوله تعالى (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). فقد تكرر ذكر هاتين اللايتين في هذه السورة ثماني مرات. ومن أسرار هذا الذكر في هذه السورة وفى سورة الشعراء أنه من مقتضيات اسمه العزيز أن يعز المؤمنين وينصرهم ويذل الكافرين ويهلكهم فتكون العزة في حق المؤمنين نصراً وتأييداً وفى حق الكافرين محقاً وإهلاكاً. ومن مقتضيات اسمه ﴿الرحيم﴾ أن يرحم المؤمنين ويكرمهم وينجيهم ويدخلهم الجنة ويرحم الكافرين بإلزامهم الحجة وإقامه البينة عليهم وإنذارهم الخوف ليتقوا ناره ويأمنوا عذابه، وأنه أبلغهم رسالته كما أبلغ المؤمنين وأنه لا يعاقبهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم وهذا من رحمته بهم. وهذا علاوة على أنه يرزقهم وأنهم يتقبلون في نعمه تعالى على محاربتهم له. وأنت إذا نظرت في هذا التعقيب وجدته يذكر بعد ذكر عقوبة الكافرين وإهلاكهم ورحمته بالمؤمنين وتنجيتهم وذلك بعد ذكر قصة كل نبي في سورة الشعراء، فكان ذكرهما أنسب شيء هنا والله اعلم. لقد ذكر ثلاث أسماء لربنا سبحانه واحداً بالتضمن واثنين تصريحاً. أما المذكور بالتضمن فهو قوله ﴿الحكيم﴾ فإنه وصف به القرآن وهو كلامه وإذا كان الكلام حكيماً فصاحبه حكيم أيضاً بكل معاني الوصف. وأما الاسمان المصرح بهما فهما العزيز الرحيم. وكمال الاتصاف بهما أن تكون الحكمة معهما فإن العزيز إذا لم يكن حكيماً كان متهوراً في عزه فتكون عزته من صفات نقصه. وإذا لم يكن رحيماً كانت عزته شدة وكانت وبالاً على عباده. والرحمة من دون عزة ضعف وهي من دون حكمة نقص لأنه لا يعلم كيف يضعها ولا أين يضعها. فهذه الصفات يكمل بعضها بعضاً ويزين بعضها بعضاً. فلا خير في رحمة من دون عزة ولا حكمة. ولا خير في عزة من دون حكمة ولا رحمة. ولا خير في حكم بلا عزة ولا رحمة. جاء في (التفسير الكبير): "﴿العزيز الرحيم﴾ إشارة إلى أن الملك إذا أرسل رسولاً فالمرسل إليهم إما أن يمانعوا المرسل وحينئذ لا يقدر الملك على الانتقام منهم ألا إذا كان عزيزاً أو يخافوا المرسل ويكرموا المرسل وحينئذ يرحمهم الملك. أو نقول: المرسل يكون معه في رسالته منع عن أشياء وإطلاق لأشياء فالمنع يؤكد العزة والإطلاق يدل على الرحمة" (2). **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص10 ص14 1- روح المعاني 22/212 – 213. 2- التفسير الكبير 26/24.

ﵟ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﵞ سورة يس - 5


Icon