الوقفات التدبرية

(إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى...

﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ الأغلال جمع غل وهو حلقة من حديد تحيط بالعنق أو باليد أو تجمع بينهما وتسمى الجامعة (1) وذلك بقصد التعنيف والتضييق والتعذيب والأسر (2). والمقمح الذي يرفع رأسه ويغض بصره (3). والمعنى إنه سبحانه جعل في أعناقهم أغلالاً ثقالاً غلاظاً عراض المساحة لا واسعة الفتحة تحيط بالعنق كله بحيث تبلغ إلى الذقن في تدع أحدهم يطأطئ رأسه أو يبصر ما تحته بل يبقى رافعاً رأسه غاضاً بصره فلا يتمكن من رؤية ما قدامه ولا ما تحته ولا ما خلفه بل لا يتمكن من الالتفات يمين أو يساراً لعرض الغل الذي يحيط بعنقه وضيقه فكيف طريقه أو يهتدي؟ وهذا تمثيل لحال هؤلاء الكفرة وبقائهم على ضلالهم فلا يتمكنون من الهدى ولا يعرفونه، وربما كان هذا حالهم أيضاً في الآخرة. جاء في (الكشاف): "ثم مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله. فإن قلت: ما معنى قوله ﴿فهي إلى الأذقان﴾؟ قلت: معناه فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزه إليها وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادراً من الحلقة إلى الذقن فلا تخليه يطأطئ رأسه ويوطئ قذاله فلا يزال مقمحاً. والمقمح الذي يرفع رأسه ويغض بصره، يقال قمح البعير فهو قامح إذا روى فرفع رأسه" (4). وجاء في (التفسير الكبير): "معناه إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه. (المسألة الثالثة) كيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية؟ فنقول: المغلول الذي بلغ الغل إلى ذقنه وبقي مقمحاً رافع الرأس لا يبصر الطريق الذي عند قدمه، وذكر بعده أن بين يديه سداً ومن حلفه سداً فهو لا يقدر على انتهاج السبيل ورؤيته، وقد ذكر من قبل أن المرسل على صراط مستقيم فهذا الذي يهديه النبي إلى الصراط المستقيم العقلي جعل ممنوعاً كالمغلول الذي يجعل ممنوعً من إبصار الطريق الحسي. ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يقال الأغلال في الأعناق عبارة عن عدم الانقياد فإن المنقاد يقال فيه أنه وضع رأسه على الخط وخضع عنقه والذي في رقبته الغل الثخين إلى الذقن لا يطأطئ رأسه ولا يحركه تحريك المصدق" (5). وإسناد هذا الأمر إلى نفسه سبحانه وتأكيده بإن دال على استحكام هذا الأمر وأنه لا يتمكن أحد من فك هذا الغل فلا يتحررون منه، وهو تأكيد لقوله ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فإنه هو الذي جعل الأغلال في أعناقهم فحق قوله عليهم لما علم من عدم اهتدائهم، ولو قال (لقد جعلت في أعناقهم أغلال) لكان ثمة أمل في فك الأغلال ولكن لا يستطيع أحد أن يغير ما قدره الله وحكمه فلا يفك أحد ما أغلقه ربنا ولا يغلق ما فتحه. وقال ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا ﴾ فقدم ﴿أعناقهم﴾ على الأغلال ولم يقل (إنا جعلنا أغلالاً في أعناقهم) لأن الكلام عليهم وهم مدار الحديث فكان تقديم ما تعلق بهم أولى. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص22 إلى ص24 1- انظر لسان العرب 14/13، تاج العروس 8/49. 2- انظر البحر المحيط 7/324. 3- الكشاف 2/682. 4- الكشاف 2/582. 5- التفسير الكبير 26/44 – 45

ﵟ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ﵞ سورة يس - 8


Icon