الوقفات التدبرية

(إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ...

﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ والمعنى إذا كان إنذارك لا ينفع من حق عليه القول فإن الإنذار ينفع من يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب أي ينفع من كان حياً يؤثر فيه الإنذار، وينفع أيضاً من اتبع الذكر وهو القرآن والوعظ وخشي الرحمن بالغيب وهم المؤمنون. فالإنذار ينفع طائفتين: طائفة المؤمنين المتبعين للذكر الخاشين للرحمن فإن الإنذار يزيدهم أيماناً وتمسكاً وحذراً وخوفاً مما تنذرهم إياه. وطائفة آخري وهي التي لها قلب وسمع وبصر فتدخل في زمرة أهل الإيمان وهذا شأن كثير ممن أنذروا فإنهم فارقوا دينهم وآمنوا بدين الله. وعلى هذا يكون المعنى إنما تنذر إنذاراً نافعاً من اتبع الذكر، فمع هؤلاء يحصل المطلوب من الإنذار ومقصودة. والذكر هو القرآن والمواعظ وكل ما يذكر به المرء. وقد تقول: إنه عبر بالفعل الماضي فقال ﴿اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِى الرَّحْمَنَ﴾ فهذا يخص طائفة المؤمنين ولا يشمل من لم يدخل الإيمان قلبه بعد. فنقول: إن الفعل الماضي قد يعبر به عن المستقبل كقوله تعالى ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ – البقرة (150)، أي تخرج، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) – البقرة (159 -160)، أي إلا الذين يتوبون ويصلحون ويبينون بعد الكتمان، فعبر عن الكتمان بالفعل المضارع فقال ﴿إن الذين يكتمون﴾ وعبر عن التوبة والإصلاح والتبيين بعد الكتمان بالفعل الماضي فقال (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ، فإذا كان الكتمان مضارعاً فلاشك أن التوبة منه والتبيين يكونان بعده ولكنه عبر عن ذلك بالفعل الماضي. جاء في (الكشاف) إن قوله تعالى ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ "على معنى إنما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين وهم المتبعون للذكر وهو القرآن والوعظ الخاشعون ربهم" (1) وجاء في (البحر المحيط):"إنما تنذر أي إنذاراً ينفع من اتبع الذكر وهو القرآن، قال قتادة: أو الوعظ" (2). وجاء في (التفسير الكبير): "قال تعالى ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾. والترتيب ظاهر وفي التفسير مسائل: (المسألة الأولى) قال من قبل ﴿لتنذر﴾ وذلك يقتضي الإنذار العام على ما بينا، وقال ﴿إنما تنذر﴾ وهو يقضي التخصيص فكيف الجميع بينهما؟ نقول من وجوه: ﴿الأول﴾ هو أن قوله ﴿لتنذر﴾ أي كيفما كان سواء كان مفيداً أو لم يكن، وقوله ﴿إنما تنذر﴾ أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة إلى من يتبع الذكر ويخشى. (الثاني) هو أن الله تعالى لما قال إن الإرسال والإنزال وذكر أن الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى أهل العناد قال لنبيه ليس إنذارك غير مفيد من جميع الوجوه فأنذر على سبيل العموم وإنما تنذر بذلك الإنذار العام من يتبع الذكر كأنه يقول: يا محمد إنك بإنذارك تهدى ولا تدري من تهدى فأنذر الأسود والأحمر ومقصودك من يتبع إنذارك وينتفع بذكراك" (3). وجاء في (روح المعاني) أن "﴿اتبع﴾ بمعنى ﴿يتبع﴾، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع والمعنى إنما ينفع إنذارك المؤمنين الذين اتبعوا، ويكون المراد بمن اتبع المؤمنين بالإنذار الإنذار عما يفرط منهم بعد الإتباع فلا يلزم تحصيل الحاصل، وقيل المراد من اتبع في علم الله وهم الأقلون الذين لم يحق القول عليهم (4). وقال ﴿اتبع الذكر﴾ ولم يقل ﴿تبع﴾ للدلالة على المبالغة في الاتباع والاجتهاد فيه ولذا اتبعه بقوله وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ فإن الذي يخشى الرحمن بالغيب هو متبع إتباعاً جاداً وليس إتباعاً على ضعف، والذي يبشر بمغفرة وأجر كريم هو المتبع لا مجرد التابع. فهؤلاء هم الذين يحصل معهم المقصود من الإنذار. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضي السامرائي الجزء الثاني من ص30 إلى ص32 1- الكشاف 2/583 2- البحر المحيط 7/325 3- التفسير الكبير 26/47 4- روح المعاني 22/217

ﵟ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﵞ سورة يس - 11


Icon