الوقفات التدبرية

(وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) هذا فيه معان وأوجه: منها إنه...

﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ هذا فيه معان وأوجه: منها إنه يدل على إنه خشي الرحمن وإن لم يشاهده فكما آمن به بالغيب خشيه بالغيب، وهذا من تمام الإيمان ذلك أن الناس عادة يخشون من يشاهدهم ويشاهدونه ويعلمونه إنه مراقب أفعالهم فإن غاب عن أعينهم ذهبت الخشية منه، أما هذا فإنه يخشى الرحمن بالغيب لأنه يعلم أنه حاضر معه شاهد عليه يراقب أفعاله وإن غاب عن بصره. ومن معاني هذا التعبير أيضاً إنه خشي عقاب الرحمن الذي حذر عباده يوم القيامة وهو غيب ومعنى خشية عقابه وهذا من معاني خشية الرحمن بالغيب أيضاً. ومن معانيه أيضاً إنه يخشى الرحمن إذا غاب عن أعين الناس والمشاهدين له فكثير من الناس يفعلون أفعالاً إذا خلوا إلى أنفسهم لا يفعلونها إذا شاهدهم الناس، والمعنى إنه إذا أمن مراقبة الناس واطلاعهم عليه خشي الرحمن فلا يفعل إلا ما يرضيه. فهذا كله من معاني خشية الرحمن بالغيب وباستكمالها تكون خشيته بالغيب، جاء في (التفسير الكبير): "وقوله ﴿بالغيب﴾ يعنى بالدليل وإن لم ينته إلى درجة المرئي المشاهد فإن عند الانتهاء إلى تلك الدرجة لا يبقى للخشية فائدة. والمشهور أن المراد به بالغيب ما غاب عنا وهو أهوال القيامة، وقيل إن الوحدانية تدخل فيه" (1). وجاء في (البحر المحيط): "﴿بالغيب﴾ أي الخلوة عند مغيب الإنسان عن عيون البشر" (2). وجاء في (روح المعاني): "﴿بالغيب﴾ حال من المضاف المقدر في نظم الكلام... أي خشي عقاب الرحمن حل كون العقاب ملتبساً بالغيب أي غائباً عنه، وحاصله خشي العقاب قبل حلوله ومعاينة أهواله. ويجوز أن يكون حالاً من فاعل ﴿خشي﴾ أي خشي عقاب الرحمن غائباً عن العقاب غير مشاهد له أو خشي غائباً عن أعين الناس غير مظهر الخشية لهم لأنها علانية قلما تسلم من الرياء (3). قالوا وذكر اسمه ﴿الرحمن﴾ مع الخشية دون غيره من أسمائه الحسنى لأكثر من سبب منها: 1- إنه قد يسبق إلى الذهن أن الرحمن لا يعاقب لأن رحمته واسعة وإنها سبقت غضبه فيسبق إلى نفسه الرجاء وينسى الخشية فذكر ذلك لئلا يغتر مغتر برحمته. 2- أن الرحمة تورث الاتكال فقرنه بالخشية لئلا يتكل على رحمته وينسى عقابه. 3- أن من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر ينبغي أن يكون الخوف منه أتم وذلك لئلا يقطع عنه نعمته. 4- وهناك أمر آخر وهو أن جو السورة تشيع فيه الرحمة وذكرها وقد بنيت السورة على العزة والرحمة كما ذكرنا في قوله تعالى ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ والعزيز ينبغي أن يخشى فقوله ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ جمع بين العزة والرحمة. 5- وفيه توجيه إلى أن الرحمة ينبغي أن تكون مقرونة بخشية الراحم فلا يصح الاتصاف بالرحمة وحدها، فالرحمة وحدها قد تكون ضعفاً وقد يكون الاتصاف بها ذماً ونقصاً، فهو توجيه إلى المربين ليجمعوا بين الرحمة والخشية من الراحم وبين الربوبية والخشية من الرب، وبين الرحمة والعقوبة، ولذا قال تعالى ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ – مريم (45) وقال (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) – الحجر (49 -50). جاء في (التفسير الكبير): " وقوله ﴿وخشى الرحمن﴾ فيه لطيفة وهي أن الرحمة تورث الاتكال والرجاء، فقال مع إنه رحمن ورحيم فالعاقل لا ينبغي أن يترك الخشية فإن من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر فالخوف منه أتم، مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة. و(تكملة اللطيفة) هي أن من أسماء الله اسمين يختصان به هما الله والرحمن كما قال تعالى ﴿ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ حتى قال بعض الأئمة هما علمان: إذا عرفت هذا فالله ينبئ عن الهيبة والرحمن ينبئ عن العاطفية فقال في موضع (رجو الله) وقال ههنا ﴿وخشي الرحمن﴾ يعنى مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا عنه رجاءكم ومع كونه ذا رحمة لا تأمنوه" (4). وجاء في (البحر المحيط):" و﴿خشي الرحمن﴾ أي المتصف بالرحمة مع أن الرحمة قد تعود إلى الرجاء ولكنه مع علمه برحمته هو يخشاه خوفاً من أن يسلبه ما أنعم به عليه " (5). وجاء في (روح المعاني):"و﴿خشي الرحمن﴾ أي عقابه ولم يغتر برحمته عز وجل فإنه سبحانه مع عظيم رحمته أليم العذاب كما نطق به قوله تعالى (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ). ومما قرر يعلم سر ذكر الرحمن مع الخشية دون القهار ونحوه (6). وقد تقول: ولم قال ههنا ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ مع إنه قال في أكثر من موطن ﴿ويخشون ربهم﴾ من دون ذكر للغيب؟ والجواب أن كل تعبير مناسب لموطنه الذي هو فيه. ذلك أن قوله ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ مطلق أي يخشونه خشية مطلقة على كل حال سواء كانت بالغيب أم لا، وقوله ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ مقيد أي أن الخشية تكون بالغيب أي عند غيبتهم عن عيون الناس وإيضاح ذلك إنه إذا كان المقصود بالغيب أن يخشى ربه وإن لم يشاهده أو أنه يخشى عذابه يوم القيامة فإن الخشية كلها داخلة فيه سواء قال ﴿بالغيب﴾ أم لم يقل، وإذا كان المقصود بالغيب بمعنى الغيبة عن عيون الناس فإن هذه الخشية تكون مقيدة وقوله ﴿يخشون ربهم﴾ من دون ذكر للغيب يكون مطلقاً عاماً أي سواء كان الخاشي أمام الناس أم لا. وعلى هذا يكون قوله ﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ هي حالة من حالات الخشية العامة وهي جزء منها فتلك خشية عامة مطلقة سواء كانت أمام الناس أم لا وهذه مقيدة، فالخشية العامة هي الخشية بالغيب وزيادة. فإذا كان المقام يقتضي ذكر الخشية العامة من دون تقييد ذكرها مطلقة ولم يقيدها وإليك إيضاح ذلك: قال تعالى (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) – الأنبياء (48 -49) وقال: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ - فاطر 18 وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ – الملك 1 وقال: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) – ق 32 – 33 وقال: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ – يس11 فهذه كلها ذكر فيها الخشية بالغيب. في حين قال: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾ – الرعد 21. وقال ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ – الزمر (23) فلم يذكر الخشية بالغيب وإنما أطلقها في الموطنين. أما أية الزمر فإن الأمر فيها واضح إذ لا داعي فيها للتقييد فإنه قال ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ واقشعرار الجلود ولينها ولين القلوب أمر غائب عن الآخرين ولا يشعر به إلا صاحبه أما الآخرون فلا يعلمونه، ولا يختلف الأمر سواء كان ذلك وحده أم مع الآخرين فلا داعي لتقييد الخشية بالغيب. وأما أية الرعد فإننا نذكر السياق الذي وردت فيه، قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) – الرعد 19-24 ومن النص يظهر ما يأتي: 1- إنه وصفهم بأنهم أولو الألباب وقصر عليهم التذكر فقال ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ والمعنى إنه لا يتذكر إلا أولو الألباب. 2- ذكر أنهم يوفون بعهد الله وهو وصف عام يشمل الالتزام بجميع الفروض وتجنب المعاصي (7). 3- وأنهم لا ينقضون الميثاق. 4- يصلون ما أمر الله به أن يوصل. 5- يخشون ربهم 6- يخافون سوء الحساب 7- إنهم صبروا ابتغاء وجه ربهم. 8- أقاموا الصلاة 9- أنفقوا مما رزقهم الله سراً وعلانية، وهذا يدل على الخشية بالغيب والزيادة. 10- يدرؤون بالحسنة السيئة. وذكر جزاءهم على النحو الآتي: 1- أن لهم عقبى الدار وهي جنات عدن يدخلونها هم. 2- ويدخلها معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. 3- والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. 4- يحبونهم بقولهم سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. وإذا نظرنا في جميع الآيات التي ورد فيها قوله يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وجدنا أنها تشمل جزءاً مما ذكر في آيات الرعد.. فكما أن الخشية بالغيب جزء من الخشية العامة المطلقة أدرج في مواطن الخشية بالغيب جزءاً مما ذكر في الخشية العامة، فناظر بينهما في الإطلاق والتقييد، والجزئية والكلية، وأليك إيضاح ذلك: 1- ذكر في سورة الأنبياء إنه مما آتى موسى وهارون: 1. ذكراً للمتقين. 2. الذين يخشون ربهم بالغيب 3. من الساعة مشفقون فما في أية الأنبياء جزء مما ذكر في آيات الرعد، والخشية في الرعد تشمل الخشية بالغيب وزيادة. 2- ذكر في أية فاطر أمرين: 1. يخشون ربهم بالغيب 2. أقاموا الصلاة 3- ذكر في أية الملك: 1. يخشون ربهم بالغيب 4- ذكر في سورة ق: 1. أزلفت الجنة للمتقين. 2. وهم كل أواب. 3. حفيظ. 4. من خشي الرحمن بالغيب. 5. جاء بقلب منيب. ومن الملاحظ في آيات (ق) هذه أنه لم يذكر أعمالاً بدنية ظاهرة كالصلاة والإنفاق ودرء السيئة بالحسنة وغيرها، وأن الجزاء أقل مما في الرعد. 5- ذكر في سورة يس: 1. اتبع الذكر. 2. خشي الرحمن بالغيب. وقوله ﴿اتبع الذكر﴾ أمر عام يشمل عموم الإتباع، ونظيره في آيات الرعد ﴿الذين يوفون بعهد الله﴾ فإنه يشمل جميع ما عهد الله في كتبه، فما ذكر في الرعد أكثر تفصيلاً وقد شمل ما في آية يس تفصيلاً على جهة الإحسان في الإتباع وليس مجرد الإتباع. يوضح ذلك أن الله تعالى قال في صفات المتقين ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ وهذا إتباع. وقال ههنا ﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ وهذا من الإحسان في الاتباع وليس مجرد الاتباع. وقال تعالى ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ وهذا إتباع، وقال ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ وهذا أمثل في الإتباع وأحسن، وقال ههنا ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ وهذا أعلى وأكمل وأمثل في الإتباع وأحسن مما قبله ذلك إنه لم يعف فقط وإنما درأ السيئة بالحسنة. ثم إن الجزاء في آيات الرعد أعلى مما ذكر في سورة يس فقد قال في سورة يس ﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ وذكر في سورة الرعد أن لهم عقبى الدار جنات عدن ....الخ وهذا أعلى مما ذكر في سورة يس فإنه ذكر في سورة يس الأجر ولم يذكر الجنة والأجر لا يعنى الجنة نصاً وإنما هو الجزاء على العمل ويكون الأجر على حسب العمل، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) - النساء (66-68). فالأجر العظيم هنا لا يعنى الجنة وإنما هو الثواب على العمل ولذلك قال بعدها: ﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾. وقال (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) – المزمل 20. إذ لا يصح أن يقال هنا أن الأجر هو الجنة، ألا ترى أنه لا يقال (هو خيراً وأعظم جنة)؟ فما ذكر في آيات الرعد من الصفات والجزاء أعلى وأكمل. من هذا يتضح أم قوله ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ أعم وأشمل من قوله ﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾. قد تقول: إنك تعنى أن الذين قيل فيهم قوله ﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ أعلى وأمثل ممن فيهم ﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ ونحن لا يبدو لنا هذا الأمر. فنقول: هذا أشمل لأنه يشمل الخشية بالغيب وغيرها، وقد تكون الخشية بالحضور أعلى من الخشية بالغيب عن الناس ذلك أن قسماً من الناس ضعاف النفوس لا يحبون أن يتهموا بالتدين والرجعية والجمود أو بالتعقيد فيتهاون ويعمل أمام الملأ أعمالاً لا ترتضيها نفسه ولو خلى بينه وبين نفسه لم يفعلها، فمثلاً: إن هناك من يقول: أنا لست صائماً تدينا وإنما لأمر يتعلق بالصحة لأنه يخجل أن يقول: أنا صائم تديناً، وآخر يقول: أنا لا أمتنع عن الخمر تديناً ولكن لأنها مذهبة للعقل والصحة. وهناك آخرون يفعلون أفعالاً محرمة بدافع المجاملة ونفوسهم تشعر بالإثم والحرج ولو تركوا وأنفسهم لم يفعلوها كشرب الخمر أو غيره من المعاصي كما فالتعالي عن قسم من أهل النار﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ – المدثر (45)، وعن آخر يقول لصاحبه ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ – الزخرف _38)، ونحو ذلك. فإظهار الخشية من الله أمام هؤلاء أكمل وأمثل وأعلى من الخشية بالغياب عن عيون الناس لأن فيها إظهاراً وتعظيماً لشعائر الله وتقوية لضعفاء الدين وقمعاً للذين يجاهرون بمحاربة الله ورسوله. وعلى هذا تكون الخشية المطلقة أشمل وأكمل، ومعنى الخشية المطلقة: الخشية بالغيب والخشية بالمشاهدة. ثم لنلاحظ من ناحية آخري في قوله تعالى ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ أنه ذكر نوعين من العبادة: عبادة ظاهرة وهي قوله تعالى ﴿اتبع الذكر﴾ وعبادة قلبية وهي قوله ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾، وذكر نوعين من الجزاء: المغفرة والأجر الكريم. والمغفرة هي ما يتعلق بالذنوب. والأجر الكريم ما يتعلق بالعمل الصالح. فشمل ذلك كل أنواع العمل سواء كان سيئاً أم صالحاً. فالعمل السيئ مغفور لهؤلاء، والعمل الصالح مكافأ عليه بالأجر الكريم وهو أحسن تقسيم وأنسبه. جاء في (البحر المحيط): "ولما أجدت فيهم النذارة بشرة بمغفرة لما سلف وأجر كريم على ما أسلف من العمل الصالح وهو الجنة" (8) وجاء في (روح المعاني): "﴿فبشره بمغفرة﴾ عظيمة لما سلف وقيل لما يفرط منه، و﴿أجر كريم﴾ حسن لا يقادر قدره لما أسلف" (9) **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضي السامرائي الجزء الثاني من ص32 إلى ص40. - التفسير الكبير 26/47 2- البحر المحيط 7/325 3- روح المعاني 22/217 4- التفسير الكبير 26/47 – 48 5- البحر المحيط 7/326 6- روح المعاني 22/217 7- البحر المحيط 5/382 8- البحر المحيط 7/325 9- روح المعاني 22/317

ﵟ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﵞ سورة يس - 11


Icon