الوقفات التدبرية

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا...

﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ قالوا إن أصول الإيمان ثلاثة: التوحيد والرسالة والحشر (1)، وقد ذكرها كلها في هذه الآيات، فإن الرسالة تقتضي مرسلاً وهذا يدل على التوحيد وقد نص على ذلك بقوله ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾. وقد ذكر الرسالة بقوله ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾. وقوله ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى﴾ يدل على الحشر. وارتباط هذه الآية بما قبلها واضح ذلك أن عاقبة الإنذار والتبشير اللذين ذكرهما قبل هذه الآية بقوله ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ﴾ و( ِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) إنما تكون في الحياة بعد الموت فكان ذكرها ترغيباً وترهيباً وهو أنسب شيء. جاء في (التفسير الكبير): "في الترتيب وجوه. أحدهما أن الله تعالى لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمناً مسلماً ذكر أصلاً آخر وهو الحشر. وثانيها وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله ﴿فبشره بمغفرة﴾ ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال: إن لم ير في الدنيا فالله يحيى الموتى ويجزي المنذرين ويجزي المبشرين. وثالثها إنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى" (2). وجاء في (روح المعاني): " ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى﴾ الخ تذييل عام للفريقين المصممين على الكفر والمشفقين بالإنذار ترهيباً وترغيباً ووعيداً ووعداً" (3). وقد أكد الضمير المتقدم بــ﴿إن﴾ مع ذكر ضمير الفصل ﴿نحن﴾ لإفادة القصر وللتقوية ذلك أن الله وحده هو الذي يحيى الموتى لا غيره ولا يشاركه في هذا أحد فقدم الضمير لذلك وأعنى الضمير المؤكد بـ ﴿إن﴾، وكان الأصل أن يقال من غير توكيد: نحن نحيى الموتى، ولكنه أكد الضمير بــ ﴿إن﴾ وجاء بضمير الفصل توكيداً وتقوية ذلك أن الكفار لا يقرون بالحشر ولا يؤمنون بالحياة بعد الموت وكانوا يقولون: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ – الجاثية (24)، فأكد هذا الحكم بـ﴿إن﴾ وبضمير الفصل، فأفاد هذا التعبير حصراً وتوكيداً. جاء في (روح المعاني): "وتكرير الضمير لإفادة الحصر أو للتقوية... وضمير العظمة للإشارة إلى جلالة الفعل، والتأكيد للاعتناء بأمر الخبر أو لرد الإنكار فإن الكفرة كانوا يقولون ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ أي إنا نحن نحيى الأموات ببعثهم يوم القيامة" (4). وقد تقول: ولم لم يؤكد باللام أيضاً كما فعل في موطن آخر فقد قال في سورة الحجر: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾ -23؟ والجواب أن كل موطن يقتضي ما ذكر... فإنه في سورة الحجر من مظاهر قدرته وفصل فيها مالم يذكره في سورة يس، فقد قال في سورة الحجر(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) – 16-23. في حين لم يذكر شيئاً من ذلك في سورة يس، فاقتضى ذلك أن يذكر اللام توكيداً ومناسبة لمقام التفصيل، فناسب الإيجاز الايجاز والتفصيل التفصيل. هذا من ناحية، ومن ناحية آخري إنه فصل في ذكر الحشر في سورة الحجر مالم يفصله في سورة يس، فقد قال في الحجر (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)  – ﴿23- 25﴾. في حين لم يزد في سورة يس على قوله ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ ثم ينتقل إلى موضوع آخر، فناسب مقام الحشر وذكره بصورة أوسع مما في يس أن يزيد في توكيده. ومن ناحية ثالثة أن الخطاب في سورة يس قبل وبعد الآية للرسول، ويبدأ ذلك بقوله (إنك لمن المرسلين .... لتنذر قوماً.. وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم.... إنما تنذر من اتبع الذكر... فبشره بمغفره) ثم تأتى الآية بعدها ﴿وأضرب لهم مثلاً (13)﴾ في حين أن الخطاب في الحجر لعموم الخلق كما هو ظاهر، ولا شك أن عموم الخلق بهم حاجة إلى تأكيد الحشر أكثر من الرسول (صلى الله عليه وسلم) فناسب ذلك الزيادة في التأكيد في آية الحجر من كل وجه والله أعلم. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضي السامرائي الجزء الثاني من ص40 إلى ص42. 1- أنظر التفسير الكبير 26/48، البحر المحيط 7/325 2- التفسير الكبير 26/48 3- روح المعاني 22/218 4- روح المعاني 22/218

ﵟ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﵞ سورة يس - 12


Icon