الوقفات التدبرية

(إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا) قال...

﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا﴾ قال ﴿أرسلنا إليهم﴾ ولم يقل (أرسلنا إليها) كما قال ﴿جاءها﴾ لأن الإرسال في الحقيقة إلى أهل القرية لا إلى القرية أما المجيء فكان إلى القرية فإن القرية تطلق على المساكن والأبنية والضياع وإن كانت خالية، قال تعالى ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾- البقرة (259)، ولذلك قال بعد ﴿فكذبوهما﴾ فنسب التكذيب إلى أهلها ولم ينسبه إلى القرية لأنهم هم المرسل إليهم وهم المكذبون. وقوله ﴿فكذبوهما﴾ يدل على أنها أنذرا أصحاب القرية وبلغاهم دعوة ربهم إلا أنهم كذبوهما، وهذه الفاء تسمى فاء الفصيحة وهي التي أفصحت عن المحذوف وهو التبليغ لأن التكذيب لا يكون إلا مع التبليغ فحذف ما هو مفهوم من الكلام وما لا داعي له لأن العناية ههنا بموقف أهلها منهما. وهو الموقف المشابه لموقف أهل مكة. جاء في (روح المعاني): وقيل ﴿أرسلنا إليهم﴾ دون (أسلنا إليها) ليطابق إذ جاءها لأن الإرسال حقيقة إنما يكون إليهم لا إليها بخلاف المجيء وأيضاً التعقيب بقوله تعالى ﴿فكذبوهما﴾ عليه أظهر. وهو هنا نظير التعقيب في قوله تعالى ﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ(﴾ 1). ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ عززنا قوينا والمعنى فوقيناهما غير أنه لم يذكر المفعول به فليم يقل (فعززناهما) ذلك أن المقصود تقوية الحق الذي أرسلوا به على علاوة على تقويتهما وليس المقصود تقوية الشخصين فقط، فأخرج الفعل مخرج العموم ولو ذكر مفعولاً به لتقيد التعزيز بذلك المفعول. فنحن نرى فيما نرى أنك قد تنصر شخصاً وتقويه ولا تنصره فكره، ونرى الشخصين أو فريقين متخاصمين يحارب أحدهما الآخر أو يقتله وهما يحملان فكراً واحداً. فقال ههنا ﴿فعززنا بثالث﴾ ليدل على أن التقوية عامة لهما ولدعوتهما. وقد ذهب الزمخشري وآخرون إلى أن الغرض من الحذف إنما هو لبيان أن المقصود ذكر المعزز به وهو الحق الذي أرسلا به. والذي يبدو لي ما ذكرت والله أعلم. جاء (الكشاف) في قوله ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ ﴿فعززنا﴾ فقوينا... فإن قلت: لم ترك ذكر المفعول به؟ قلت: لأن الغرض ذكر المعزز به... وإذا كان الكلام منصباً إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه كأن ما سواه مرفوض مطروح ونظيره قولك (حكم السلطان اليوم بالحق) الغرض المسوق إليه ﴿بالحق﴾ فلذلك رفضت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه"(1). وجاء في (التفسير الكبير): "وترك المفعول حيث لم يقل (فعززناهما) لمعنى لطيف وهو أن المقصود من بعثهما نصرة الحق لا نصرتهما والكل مقوون للدين المتين بالبرهان المبين"(2). واسند التعزيز إلى نفسه سبحانه فقال ﴿فعززنا﴾ كما قال ﴿إذ أرسلنا﴾ للدلالة على أن المرسل والمعزّز واحد كل ذلك بأمره سبحانه. ﴿فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾ أسند القول إليهم جميعاً لأنهم يدعون بدعوة واحدة وقد انضم الثالث إلى الاثنين في دعوتهما إلى الله سبحانه. ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾ قالوها مؤكدة بـ ﴿إن﴾ لأن الموقف يحتاج إلى توكيد ذلك أن الصحاب القرية كذّبوا الرسولين كما أخبر تعالى ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا﴾ ولذا قوّاهما بثالث فاحتاج الكلام بعد التكذيب والتقوية بالثالث إلى توكيد فقال ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ(14)﴾ وهذا القول إنما هو بعد التكذيب والتعزيز يدل على ذلك ﴿فقالوا﴾ بالجمع وقوله ﴿إنا إليكم مرسلون﴾ بالجمع. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 52 إلى ص 53: - روح المعاني 22/221. 2- الكشاف 2/584.

ﵟ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﵞ سورة يس - 14


Icon