الوقفات التدبرية

(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا...

﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ في هذا الوقت المتأزم والظرف العصيب الذي كثر فيه التهديد والتوعد واشتد فيه الإرهاب جاء من أقصى المدينة رجل يسعى ليعلن إتباعه للرسل وإيمانه بهم ويبين ضلال قومه غير مبال بما سيحدث له. وفي التعبير دلالات مهمة في هذا الخصوص. 1- فقد ذكر أنه جاء من أقصى المدينة أي من أبعد مكان فيها لا يثنيه شيء حاملاً همّ الدعوة. 2- قال ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ ولم يقل (من أقصى القرية) وقد سماها قرية بادئ ذي بدء فقال ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ ذلك للدلالة على أنها واسعة، فالقرية إذا كانت متسعة تسمى مدينة أيضاً. فأفاد أن هذه القرية كبيرة متسعة ولذا أطلق عليها مدينة أنه جاء من مكان بعيد وذلك يدل على اهتمامه الكبير بمعتقده الجديد. 3- قال ﴿يسعى﴾ أي يعدو ويسرع في مشيه وليس متباطئاً يقدم رجلاً ويؤخر أخرى وهو توجيه للدعاة يعدم التواني في أمر الله. 4- لم يسكت عن الحق ولم يجامل أو يهادن بل دعا قومه إلى الإيمان بما جاءت به الرسل وأتباعهم وأعلن عن إيمانه هو. 5- إن مجيئه من أقصى المدينة يدل على وصول البلاغ إلى أبعد مكان فيها مما يدل على جديتهم في التبليغ وتوسعهم فيه، وهو تصديق لقولهم ﴿وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(17)﴾ وقال هنا (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) - القصص (20) بتقديم ﴿رَجُلٌ﴾ على ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾. ذلك أن القصد في آية يس أن يبين أن مجيء الرجل كان من أبعد مواضعها. وأما في القصص فإنه يفيد أن الرجل من أقصى المدينة أي هو من أهل المواضع البعيدة غير أنه لا يلزم أن يكون مجيئه من أقصى المدينة. وهو كما تقول (جاءني من القرية رجال) أي جاءوك من القرية، وتقول (جاءني رجال من القرية) فالرجال هم من أهل القرية لكن لا يقتضي أن مجيئهم إليك كان من القرية بل قد يكونون في المدينة ثم جاءوك. وقد يكون المجيء من القرية. فقولك (جاءني رجال من القرية) يحتمل معنيين بخلاف قولك (جاءني من القرية رجال). وعلى أية حال فإن قوله وجاء رجل من أقصى المدينة) يحتمل ذلك ويحتمل أنه من أهل الأماكن البعيدة وإن لم يكن مجيئه من هناك. وفي تقديم ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ في سورة يس فائدة أخرى حتى لو كان مجيئها كليهما من أقصى المدينة. فإن قوله ﴿وجاء من أقصى المدينة﴾ يدل على أن الاهتمام أكبر لأكثر من سبب: 1- ذلك أن مجيء الرجل من أقصى المدينة إنما كان لغرض تبليغ الدعوة في حين أن مجيء الرجل إلى موسى كان لغرض تحذيره. والأمر الأول أهم. 2- ثم إن مجيء الرجل من أقصى القرية إنما كان لإشهار إيمانه أمام الملأ ونصح قومه، في حين أنه كان المجيء إلى موسى ليسرّ إليه كلمة في أذنه، فمجيء رجل يس إنما كان للإعلان والإشهار ومجيء رجل موسى إنما كان للإسرار. وفرق بين الأمرين. 3- إن مجيء رجل يس فيه مجازفة ومخاطرة بحياته، وليس في مجيء رجل موسى شيء من ذلك وإنما هو إسرار لشخص بأمرٍ ما ليحذر. 4- إن المجتمع في القرية كله ضد على الرسل وعقيدتهم مكذب لهم متطير بهم فإعلان الرجل أنه مؤمن بما جاء به الرسل مصدق لهم فيه ما فيه من التحدي لهم، بخلاف مجتمع سيدنا موسى عليه السلام فإنه ليس فيه فكر معارض أو مؤيد وليست هناك دعوة أصلاً. 5- إن نصر رسل الله وأوليائه ودعاته أولى من كل شيء فإن تعزيزهم تعزيز لدعوة الله. وإنما موسى عليه السلام فإنه كان رجلاً من المجتمع ليس صاحب دعوة آنذاك ولم يكلفه الله بعد حمل الرسالة. فتقديم ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ دل على أن الموقف أهم وأخطر. ومع ذلك أفادنا أن تحذير شخص من ظالم أمر مهم ينبغي أن يسعى إليه ولو من مكان بعيد. فإن كلا الموقفين مهم غير أن أحدهما أهم من الآخر فقدم ما قدم ليدل على الاهتمام. جاء في (التفسير الكبير) في قوله تعالى ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾ "وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان: أحدهما – أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي. وعلى هذا فقوله ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ فيه بلاغة باهرة. وذلك لأنه لما جاء من ﴿أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ﴾ وهو قد آمن دل على أن إنذارهم وإظهارهم بلغ إلى أقصى المدينة... وفي التفسير مسائل: (المسألة الأولى) قوله ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ﴾ في تنكير الرجل مع أنه كان معروفاً معلوماً عند الله فائدتان: ﴿الأولى﴾ أن يكون تعظيماً لشأنه أي رجل كامل في الرجولية. (الثانية) أن يكون مفيداً لظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال إنهم تواطؤا. (المسألة الثانية) قوله ﴿يَسْعَى﴾ تبصرة للمؤمنين وهداية لهم يكونوا في النصح باذلين جهدهم. وقد ذكرنا فائدة قوله ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في أقصى المدينة"(1). وجاء في (روح المعاني) ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ أي من أبعد مواضعها ﴿رَجُلٌ﴾ أي رجل عند الله تعالى فتنويه للتعظيم. وجوز أن يكون للتنكير لإفادة أن المرسلين لا يعرفونه ليتواطؤا معه.... ﴿يَسْعَى﴾ أي يعدو ويسرع في مشيه حرصاً على نصح قومه، وقبل إنه سمع أن قومه عزموا على قتل الرسل فقصد وجه الله تعالى بالذب عنهم... وجاء ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ هنا مقدماً على ﴿رَجُلٌ﴾ عكس ما جاء في القصص وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة. وقال الخفاجي: قدم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بياناً لفضله إن هداه الله تعالى مع بعده عنهم وأن بعده لم يمنعه عن ذلك. ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة وأن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرب أو بعد. وقيل قدم للاهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين. وقيل أنه لو تأخر توهم تعلقه بيسعى فلم يفد أنه من أهل المدينة مسكنه في طرفها وهو المقصود"(2). يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ قال لهم يا قوم ليعطف قلوبهم. وذكر لهم ثلاثة أكور تدعوهم إلى إتباع هؤلاء الدعاة: 1- كونهم مرسلين من الله وهذا أهم ما يستوجب أتباعهم فكونهم مرسلين من ربهم يدعو إلى أتباعهم لأنهم لا يدعون إلى أنفسهم ولا إلى معتقدات شخصية ولا إلى آراء خاصة ولا إلى أفكار بشرية وإنما يدعونهم إلى ما أراده ربهم وخالقهم. 2- وأنهم لا يسألون أجراً على هذا التبليغ ولا يبتغون مصلحة خاصة كما هو شأن كثير من أصحاب الدعوات الأرضية مما يدل على أنهم مخلصون في دعوتهم لهم. 3- أنهم مهتدون وهذا يقتضي الأتباع وهو بغية كل متبع مخلص. جاء في (الكشاف) "﴿مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ كلمة جامعة في الترغيب فيهم أي لا تخسرون معهم شيئاً من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة"(3). وقد كرر الأتباع بقوله (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) لأكثر من غرض، فالتكرار يفيد التوكيد ويفيد أمراً آخر وهو: أن المرسلين ينبغي أن يتبعوا أصلاً، فإذا ثبت أن شخصاً ما مرسل من ربه كان ذلك داعياً إلى أن يتبع قطعاً وهذه دلالة قوله ﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾. أما أتباع غير المرسلين فيكون لمن فيه صفتان: 1- أن يكون مهتدياً. 2- أن لا يسأل أجراً ولا يطلب منفعة ذاتية. وهذا توجيه لعموم المكلفين، ولو قال ﴿اتبعوا المرسلين(20) من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون(21)﴾ لكان ذلك خاصاً بأتباع الرسل. ولا يشير إلى أتباع غيرهم من المصلحين والداعين إلى دعوتهم. فتكرار: ﴿اتَّبِعُوا﴾ أفاد الإتباع للرسل في حالة وجودهم. والإتباع الثاني لمن يحمل هاتين الصفتين. جاء في (روح المعاني): "تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يتضمن نفي المانع عن أتباعهم بعد الإشارة إلى تحقق المقتضى"(4). واختار ﴿مَنْ﴾ على ﴿الذين﴾ لكونها أعلم فإنها تشمل كل داع إلى الله واحداً كان أو أكثر. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 67 إلى ص 71: 1- التفسير الكبير 26/54 2- روح المعاني 22/225 – 226 3- الكشاف 2/582 4- روح المعاني 22/226.

ﵟ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﵞ سورة يس - 20


Icon