الوقفات التدبرية

(وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ...

(وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ9 بعد أن نصح لهم بإتباع المرسلين لأنهم على الهدى ذكر أنه بدأ بنفسه فأمن بدعوتهم وأتبعهم فقال ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾. لقد اختار من الدواعي الموجبة لعبادة ربه أنه هو المبدئ والمعيد فهو الذي فطرهم وأوجدهم، وأنهم إليه يرجعون فلا يتركهم بعد موتهم بل سيحشرهم إليه ويحاسبهم على ما قدموا فأما أن يعاقبهم أو يكرمهم وفي هذا تخويف وإطماع. لقد اختار هذين الأمرين من موجبات العبادة وهما البدء والإعادة لعلمهم جميعاً أن آلهتهم لا تفعلهما ولا تستطيعهما وبهذا سقط كل موجب لعبادة غيره وثبت كل موجب لعبادته. وقد قدم الجار والمجرور ﴿وَإِلَيْهِ﴾ على ﴿تُرْجَعُونَ﴾ لقصد الاختصاص والمعنى أن الرجوع إليه حصراً إليه لا إلى غيره وهو نظير قوله تعالى ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ و ﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ﴾ و ﴿إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾. لقد ذكر الموجب لأن يعبده هو وأن يعبدوه هم فإنه قال ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ وهذا داعٍ لأن يعبده هو فكيف لا يعبد الذي فطره؟ وفيه دعوة لهم أيضاً ليعبدوه لأن الذي فطره فطرهم أيضاً. وقال ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ وهذا داعٍ لأن يعبدوه هم فإنهم راجعون إليه فيحاسبهم. وهو مثلهم راجع إليه أيضاً لأنه فطره. فقوله ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ يقتضي أنه فطرهم أيضاً. وقوله ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ يقتضي أنه يرجع إليه أيضاً. وبذلك أشار بأوجز تعبير إلى أنه فطره وفطرهم وأنه إليه يرجع وأنهم إليه يرجع وأنهم إليه يرجعون. فما له لا يعبده وما لهم لا يعبدونه؟ وهذا تعبير موجز عن القول: (ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه أرجع، ومالكم لا تعبدون الذي فطركم وإليه ترجعون). جاء في (الكشاف): "أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لروحه. ولقد وضع قوله ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ مكان قوله (ومالكم لا تعبدون الذي فطركم)، ألا ترى إلى قوله ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع. وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال ﴿آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ يريد فاسمعوا قولي وأطيعوني فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه أن العبادة لا تصح إلا لمن مبتدؤكم وإليه مرجعكم"(1). وجاء في (التفسير الكبير): "اختار من الآيات فطرة نفسه لأنه لما قال ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ﴾ بإسناد العبادة إلى نفسه اختار ما هو أقرب إلى إيجاب العبادة على نفسه... وقوله تعالى ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إشارة إلى الخوف والرجاء كما قال ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ وذلك لأن من يكون إليه المرجع يخاف منه ويرجى"(2). وجاء في (روح المعاني): "تلطف في إرشاد قومه بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كما ينبئ عنه قوله ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ مبالغة في تهديدهم بتخوفيهم بالرجوع إلى شديد العقاب مواجهة وصريحاً. ولو قال: (وأليه أرجع) كان فيه تهديد بطريق التعويض"(3). **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 71 إلى ص 72: 1- الكشاف 2/585 وأنظر البحر المحيط 7/328 2- التفسير الكبير 26/56 3- روح المعاني 22/226.

ﵟ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﵞ سورة يس - 22


Icon