الوقفات التدبرية

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ...

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾ لقد طوي القرآن ذكر ما حصل له بعد قولته التي قالها وما فعل به قومه وكيف واجهوه. إلا أن بين أنه لم يكد يتم قوله حتى قيل له ﴿ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾ ولم يذكر أمراً أو مشهداً بين الدنيا والآخرة. ومعنى ذلك أنهم لم يمهلوه بعدها البتة. فإنه ما إن قال ذلك حتى وجد نفسه على باب الجنة يقال له: ادخل الجنة. فاختصر كل ما لا حاجة له به وإنما دل عليه المقام. ومن مظاهر الاختصار أنه بني الفعل للمجهول فقال ﴿قِيلَ﴾ ولم يذكر القائل لأنه لا يتعلق غرض من ذكر القائل ولعل القائل هم الملائكة. كما أنه لم يقل ﴿قيل له﴾ لأن ذلك معلوم من السياق. جاء في الكشاف: "قيل ادخل الجنة، ولم يقل ﴿قيل له﴾ لانصباب الغرض إلى المقول وعظمه لا إلى المقول له مع كونه معلوماً"(1). وهكذا يطوي ما حصل له بعد قولته، ويطوي الفاعل فيبني الفعل للمجهول ويطوي، المقول له ولا يذكر إلا قوله ﴿ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾. فيسير التعبير في نسق واحد وفي جو تعبيري واحد. جاء في (روح المعاني) في قوله ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾: "استئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك. والظاهر أن الأمر إذن له بدخول الجنة حقيقة وفي ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الدنيا فعن عبد الله بن مسعود أنه بعد أن قال ما قال قتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قصبه من دبره وألقي في بئر وهي الرس [وقيل قتل بغير ذلك من أنواع القتل– انظر ص 228]... والجمهور على أنه قتل. وادعى ابن عطية أنه تواترت الأخبار والروايات بذلك"(2). ﴿قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ ما إن دخل الجنة حتى تمنى أن قومه يعلمون بإكرامه وحسن عاقبته فإنهم لو علموا ذلك لاهتدوا وآمنوا بمثل ما آمن به ونالهم من الكرامة مثل ما ناله. وهو لم يتمنّ ذلك في نفسه فقط بل قال ذلك بلسانه فواطئ القلب اللسان. وفي ذلك إشارة إلى تمني الهداية لقومه وحب الخير لهم. ولم يمنع ذلك من سوء ما فعلوه به فإن المؤمن يحب الهداية للخلق ولو كانوا ألد أعدائه بل ولو أساؤوا إليه وعذبوه بل ولو قتلوه. جاء في (الكشاف): "وإنما تمنى على قومه بحاله ليكون علمهم بها سبباً لاكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والعمل الصالح المفضيين بأهلهما إلى الجنة. وفي حديث مرفوع (نصح قومه حياً وميتاً). وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي والتشمر في تخليصه والتلطف في اقتدائه والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام"(3). وجاء في (روح المعاني): "وإنما تمنى على قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب مثله بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والطاعة جرياً على سنن الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء. وفي الحديث: نصح قومه حياً وميتاً"(4). وفي هذا القول إشارة للدعاة وللمسلمين ليحبوا الهداية لعموم الخلق وأن يترفعوا عن الحقد والضغينة. لقد تمنى أن يعلم قومه أمرين: 1- مغفرة ربه له وذلك ليتوبوا ولا ييأسوا من رحمة الله. 2- وإكرامه ليحفزهم ذلك إلى العمل لينالوا حسن العاقبة. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 89 إلى ص91 1-الكشاف 2/585. 2- روح المعاني 22/228 وانظر الكشاف 2/585. 3- الكشاف 3/585. 4- روح المعاني 22/229.

ﵟ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﵞ سورة يس - 26


Icon