الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ...

برنامج لمسات بيانية أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ أي ألم يعلموا كثرة إهلاكنا للأمم الماضية فيتعظوا. و﴿كَمْ﴾ خبرية تفيد التكثير. والقرون جمع قرن وهو الأمة. وفي الآية مسائل: 1- أنه قال أَلَمْ يَرَوْا. وفي مكان آخر قال أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا. 2- وقال ههنا قَبْلَهُمْ وقال في مكان آخر ﴿من قبلهم﴾. 3- وقال ههنا مِنَ الْقُرُونِ فجمع وقال في مكان آخر ﴿من قرن﴾ فأفرد. 4- وقال ههنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ فقدم الظرف على القرون. وفي مكان آخر قدم القرون على الظرف فقال وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وقال وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ. فما سر هذا الاختلاف؟ فنقول: 1- إن معنى (أَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) (ألم يتبين لهم). ومعنى ﴿ألم تر﴾ و (ألم يهد لك) متقاربان إلى حد كبير ولكن القرآن خص كل تعبير بموطن. فقد استعمل الرؤية في نحو هذا في موطنين وهما آية يس هذه. والموطن الآخر قوله تعالى في سورة الأنعام أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ - الأنعام (6). واستعمل (أَلَمْ يَهْدِ) في موطنين أيضاً وهما قوله تعالى في سورة السجدة أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ - السجدة (26). وقوله في سورة طه أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى - (128). والملاحظ أنه يستعمل فعل الرؤية في سياق ذكر العقوبات الدنيوية فيقول أَلَمْ يَرَوْا ولعل ذلك لأن عقوبات الدنيا يمكن أن ترى آثارها. أما في سياق الآخرة وأحوالها وعقابها فيستعمل (أَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) ولعل ذلك والله أعلم أنه من باب الهداية العقلية والتبصر وهو ألصق بالهداية والتبين من الرؤية. وإليك إيضاح ذلك. فإنه بعد أن ذكر عقوبة أهل القرية في يس بقوله إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ قال أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ. وقال في سورة الأنعام فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - (5). فحذرهم. ثم ذكر الآية أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا.... بعدها وفيها قوله فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ثم يلفت نظرهم إلى ما أوقعه من عقوبات على الأمم المكذبة قبلهم وذلك نحو قوله وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ - (10، 11). فأنت ترى أن الآية ذكرت في سياق العقوبات الدنيوية فذكر ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾. وأما قوله أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ فقد جاء في سياق أحوال الآخرة. قال تعالى أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ - السجدة ﴿18 – 20﴾. وقال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَأَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ... . فقال ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ في سياق ذكر أحوال الآخرة. وكذلك الحال في آية طه فقد قال تعالى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى  أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ.... فقال ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ في سياق أحوال الآخرة أيضاً ولم يذكر شيئاً من العقوبات الدنيوية. 3- وأما قوله ﴿قَبْلَهُمْ﴾ و ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ فإن ﴿مِنْ﴾ تفيد ابتداء الغاية فتفيد الزمن الذي قبل المعنيّين بالضمير مباشرة فما قبله. وأما ﴿قَبْلَهُمْ﴾ فيفيد الزمن القريب والبعيد كما هو معلوم. فقوله ﴿كم أهلكنا من قبلهم﴾ فيه تهديد وتوعد أكبر من قوله ﴿قَبْلَهُمْ﴾ من دون ﴿مِنْ﴾ وذلك لأن إهلاك القريب أدعى إلى الموعظة والعبرة من إهلاك البعيد، وهو أشد تأثيراً في النفوس. فكلما كان الهالك أقرب زمناً إلى الشخص كان أدعى إلى الموعظة من ذوي الأزمان السحيقة. ولذلك هو يستعمل ﴿مِنْ قَبْلَهُمْ﴾ في مواطن التهديد والتوعد الشديد. وإليك بيان ذلك: قال تعالى في سورة يس أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ. وقال في السجدة أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَأَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ - (26، 27). ولو نظرنا في سياق الآيتين لأتضح لنا أن التهديد في السجدة أكبر وأشد ما في يس وذلك من جملة نواح، منها: 1- أنه قال في السجدة ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ أي يمرون ويمشون فيها ويبصرونها وذلك أدل على التوعد وأدعى للموعظة والعبرة. فإن دخول مساكن المهلكين والمشي فيها يبعث أثاراً عميقة في النفس. والتهديد بأن مصيرهم كمصير أولئك أوضح. 2- قال في السجدة  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ ولم يقل مثل ذلك في يس. 3- أنه عقب بعد ذلك بقوله أَفَلَا يَسْمَعُونَ تقريعاً لهم، أي لا يسمعون حديثهم وأخبارهم؟ 4- ثم قال بعدها أَفَلَا يُبْصِرُونَ زيادة في التقريع. 5- وقد تهددهم وتوعدهم قبل هذه الآية بأن يذيقهم العذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة بقوله  وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - (21) ولم يقل مثل ذلك في يس. 6- ذكر من آثار رحمة الله ونعمه عليهم في سورة يس من إخراج الحبوب وإنشاء الجنات وتفجير العيون ما لم يذكره في سورة السجدة فإنه لم يذكر في السجدة إلا إخراج الزرع الذي يأكل منه الأنعام والناس. فكان المقام والسياق في السجدة يدل على التهديد والتوعد أشد مما هو في سورة يس فجاء بـــ ﴿قَبْلَهُم﴾ في يس و ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ في السجدة. ونحو ذلك قوله تعالى في سورة (ص): كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ - (3). وقوله في سورة (ق): وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ - (36). فقال في (ص): مِن قَبْلِهِم، وقال في (ق) قَبْلَهُمْ. ومن النظر في السياق الذي وردت فيه كل من الآيتين يتضح أن التوعد والتهديد في (ص) أشد مما في (ق)، فإنه في (ق) لم يزد على أن قال بهد هذه الآية إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ - (37) ثم انتقل إلى أمر آخر ثم إلى الحشر في الآخرة. وأما في (ص) فإن السياق يختلف فقد ذكر من موجبات توعدهم ما لم يذكره في (ق). فقد قال بعد هذه الآية: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌأَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ  وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَاد مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌأَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ. من (4 – 8). 1- فقد ذكر أنهم قالوا: هذا ساحر كذاب. 2- وتعاهد الملأ على نصرة الآلهة وتواصلوا بذلك. 3- وقالوا إن ما أتى به الرسول إنما هو اختلاق وكذب. 4- وعجبوا كيف ينزل عليه الذكر من بينهم. في حين لم يزد في (ق) على أنه قال  بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) واستبعدوا البعث بقولهم أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3). وليس في مثل تلك الخصومة والمواجهة. وعلاوة على ذلك فقد توعهدهم بالعذاب بقوله بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أي لم يذوقوه بعد وسيذوقونه. ثم تهددهم مرة أخرى بقوله وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ - (15). فالفرق بين المقامين واضح. فإن موقف الكفار من الرسول في (ص) أشد وكان تهديده لهم اشد فقال في (ص) ﴿مِن قَبْلِهِم﴾ وقال في (ق) ﴿قَبْلَهُمْ﴾. فاتضح الفرق بين قوله كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ و مِن قَبْلِهِم. وهناك أمر آخر حسّن قوله ﴿قَبْلَهُمْ﴾ في سورة يس إضافة إلى ما ذكرناه وهو أنه قال في ختام الآية أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ وذلك ليدل على أن الأمم لا ترجع إلى الدنيا وإن تطاول عهدها بالفناء وابتعد زمانها وأن الأمم الهالكة جميعها لا تعود إلى الدنيا وليس ذلك مختصاً بما زمنه قريب منهم فإنه لم ترجع أمة أبيدت وأهلكت منذ أول الدنيا إلى الآن ولن ترجع إليها في المستقبل وإنما سيجمعها ربها ويرجعها إليه. وهذا أدعى إلى حذف ﴿من﴾ ليشمل جميع الأمم ابتداء من أول الدنيا. 3- وأما تقديم الظرف ﴿قَبْلَهُمْ﴾ على ﴿الْقُرُونِ﴾ أو تأخيره عنها بحسب القصد فإنه إذا أراد تهديد المشركين قدم ﴿قَبْلَهُمْ﴾ فيقول مثلاً أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ. وإن لم يرد ذلك قدم القرون على الظرف فيقول مثلاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ - الإسراء (17) أووَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا - يونس (13). فتقديم ما يتعلق بهم وهو الزمن المضاف إليهم يعني تهديدهم بخلاف تأخيره فإنه لا يفيد ذاك. وكل ما ورد بقصد التهديد تقدم فيه الظرف على القرون نحو قوله أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ وقوله وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا وذلك في ثمانية مواطن من القرآن الكريم. وقدم القرون على الظرف ﴿قَبْلِهِم﴾ في موطنين وهما: قوله تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ - الإسراء (17). وقوله وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا - يونس (13). أما قوله تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فليس الموطن موطن تهديد لقوم الرسول وإنما الكلام على من بعد نوح من القرون. قال تعالى مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًاوَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًاكُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا - ﴿15 – 20﴾. فليس المقام مقام تهديد لقوم الرسول خاصة. وأما قوله وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا فهو ليس تهديداً لهم أيضاً كما أنه ليس السياق أو المقام في ذلك. قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ - (13، 14). ويدل على أن المقام ليس مقام تهديد بالإهلاك قوله تعالى ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فالمقام في جعلهم خلائف من بعدهم لا في إهلاكهم. فاتضح الفرق. 4- وأما إفراد القرون وجمعها بعد ﴿كَم﴾ فإن ذلك إنما يكون لغرض فإنه يفرد إذا كان يريد ذكر صفة القرن المهلك أو حالة من حالاته أو لأي سبب آخر يقتضيه السياق. ويجمع إذا لم يرد ذلك وإنما يريد ذكر المجموع على العموم، أو يريد أن يبين أن هذه القرون المهلكة سيحييها ربها ويجمعها أو لأي سبب آخر يقتضيه السياق. وإليك إيضاح ذلك: قال تعالى أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ - الأنعام (6). فهو ذكر صفة القرن الذي أهلكه بقوله: 1- مكنّاهم في الأرض ما لم نكن لكم. 2- أرسلنا السماء عليهم مدراراً. 3- وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم. ثم ذكر بعد ذلك أنه أنشأ بعده قرناً آخرين. فأهلك قرناً وأنشأ بعده قرناً آخر. فناسب ذلك الإفراد. وقال: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا - مريم (74). فوصف القرن المهلك بأنه أحسن أثاثاً وأحسن منظراً. وقال في (ق) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ  - ق (36). فذكر صفة القرن بأنهم بطشاً من الكفرة في زمن الرسول وأنهم تقلبوا في البلاد. وقال في (ص): كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ - ص (3). أي فجأروا وصاحوا وصرخوا واستغاثوا. فذكر حالتهم هذه عند الإهلاك. وقد تقول: ربما كان هذا شأن المهلكين جميعاً. فنقول: ليسوا كلهم كذلك بدليل قوله تعالى في سورة يس في أصحاب القرية إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ. وقال في آخر سورة مريم وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا  والسياق يقتضي الإفراد ذلك أنه قال قبل هذه الآية وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًاإِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا - مريم (93 – 95). فأنت ترى أن السياق في الإفراد فقد ذكر أنه سبحانه أحصى كل من في السماوات والأرض واحداً واحداً وعّدهم عدّا وأن كل واحد منهم سيأتيه يوم القيامة فرداً. فناسب ذلك الإفراد. فأفرد القرن لذلك والله أعلم. في حين قال: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ. – يس (31). وقال: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ - السجدة (26). وقال: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى - طه (128). وقال:وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا - الإسراء (17). فذكر القرون على العموم من دون تخصيص قرن منها أو مجموعة منها بأمر معين. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه قد يذكر القرون مجموعة في مقام ذكر الآخرة لأنه سيحييها ويجمعها فقال في سورة يس أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ. فذكر أنه سيجمعها كلها ويحضرها لديه سبحانه. وقال في سورة السجدة: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ - السجدة (25، 26). فذكر سبحانه أنه يفصل بينهم يوم القيامة. وقال في سورة طه وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىأَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى - (124 – 128). فأنت ترى أنه ذكر في القرون مجموعة في هذه الآيات في سياق ذكر الآخرة. أو يكون السياق يقتضي الجمع لأمر آخر وذلك نحو قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا فأنت ترى أنه ذكر القرون من دون وصف لها وقد أراد بيان كثرة القرون المهلكة المتطاولة من بعد نوج. ثم إن السياق لم يخل من إشارة إلى الآخرة. فقد جاء بعد هذه الآية. مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا  وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا - الإسراء ﴿18 – 20﴾. وقد تقول: إن صيغتي الجمع والإفراد كافيتان في التفريق بينهما ولا حاجة إلى هذه الإطالة. فنقول لولا ورودهما بعد ﴿كم﴾ الخبرية لم نكلف أنفسنا بتسويد سطر واحد ولكن المفرد بعد ﴿كم﴾ الخبرية لا يدل على الواحد وإنما يدل على الكثرة، فتقول (كم رجل أكرمت) لا يدل على أنك أكرمت رجلاً واحداً وإنما يدل على إكرام الكثير، فكان المفرد ههنا دالاً على الجمع فاقتضى التفريق بينهما. والله أعلم. أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ والمعنى ألم يروا أنهم لا يرجعون إليهم؟ وقدم الجار والمجرور ﴿إِلَيْهِمْ﴾ لإرادة الاختصاص أي لا يرجعون إليهم بل إلينا. وفيه إمداح إلى الحشر والحياة بعد الموت. وأكد ذلك بالآية وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ. فقد أثبت الحشر ضمناً بتقديم الجار والمجرور وصرح بذلك في الآية بعدها. ونفى بـــ ﴿لَا﴾ دون ﴿لم﴾ للدلالة على أن الرجوع إلى الدنيا مرة ثانية لا يكون أصلاً لا في زمن المخاطبين ولا في المستقبل. ولو نفاه بـــ ﴿لم﴾ لكان نفى الرجوع في الماضي دون المستقبل. وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ لما بيّن أن المهلكين لا رجعة لهم إلى الدنيا ذكر أنهم كلهم راجعون إليه محضرون لديه. وفي الآية تنبيه على أن من أهلكه الله في الدنيا وعاقبه لا يتركه سدى بل سيرجعه إليه ويحاسبه ويعاقبه. جاء في (التفسير الكبير): "لما بين الإهلاك بين أنه ليس من أهلكه الله تركه. بل بعده جمع وحساب وحبس وعقاب"(1). و ﴿وَإِنْ﴾ نافية و ﴿لَمَّا﴾ بمعنى ﴿إلا﴾. و ﴿كُلٌّ﴾ مبتدأ وخبره ﴿جميع﴾. وليست ﴿جميع﴾ ههنا بمعنى ﴿كل﴾ وإنما معنى ﴿جميع﴾ ههنا (مجموعون) فهي فعيل بمعنى اسم المفعول. والمعنى أن كلهم مجموعون محضورون. و ﴿جميع﴾ قد تكون بمعنى مجموعين وبمعنى مجتمعين تقول: قوم جميع أي مجتمعون(2). وتقول: (الطلاب جميع) أي الطلاب مجتمعون. و ﴿نحن جميع﴾ أي مجتمعون فهذا كلام تام. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: كيف أخبر عن ﴿كل﴾ بجميع ومعناها واحد؟ قلت: ليس بواحد لأن كلا يفيد معنى الإحاطة وأن لا ينفلت منهم أحد. والجميع معناه الاجتماع وأن المحشر يجمعهم. والجميع فعيل بمعنى مفعول يقال: حي جميع وجاءوا جميعاً(3). والمقصود بـــ ﴿مُحْضَرُونَ﴾ أنهم محضرون للحساب، و ﴿لَدَيْنَا﴾ ظرف قدم على متعلقة ﴿مُحْضَرُونَ﴾ لإفادة الحصر بمعنى أن الإحضار لديه وليس لدى غيره. وهو نظير تقديم الجار والمجرور في قوله  أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ. و مُحْضَرُونَ إما خبر ثان أو نعت لـ ﴿جَمِيعٌ﴾ على المعنى ويصح إفراده حملاً على اللفظ فيقال ﴿وإنْ كل لما جميع لدينا محضر﴾ كما قال تعالى أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ - القمر (44). وقد تقول: ولم حمل على المعنى في يس وحمل على اللفظ في القمر؟ فنقول: لما ذكر القرون المهلكة الكثيرة في يس ناسب أن يجمع فيقول أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُحْضَرُونَ. أما في سورة القمر فإنهم فريق واحد أو جمع واحد وليس جموعاً كما قال تعالى بعدها سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فناسب ذلك الإفراد. ثم إن الانتصار إنما هو وصف للفريق كله أو للجمع كله وليس لكل فرد. فيقول الفريق المنتصر أو الجيش المنتصر (نحن انتصرنا) أو (جيشنا انتصر). ولا يقول الجندي: أنا انتصرت. فالنصر وصف للمجموع لا لكل فرد على حدة فوحد الوصف لأنه وصف للفريق أو للجمع لا لأفراده واحداً واحداً. بخلاف الإحضار للحساب أمام الله فإن كل فرد سيحضر أمام ربه ويمثل للحساب كما قال تعالى وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا فناسب الجمع في يس من جهة أخرى. وقد تقول: ولم قال إذن في سورة الشعراء وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ - الشعراء (56) فجمع ولم يفرد؟ والجواب أن ذلك لأكثر من سبب ويدلل عليه السياق قال تعالى فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ - ﴿53 – 46﴾. فإن فرعون أرسل في المدائن المتعددة أناساً يحشرون الناس ويجمعونهم يبلغونهم قرار فرعون المذكور فهم جموع متعددة لا جمع واحد فناسب الجمع من جهة. ومن جهة أخرى لم يقل (وإما لجميع حاذر) لأنه لم يرد أن يجعل الحذر وصف الفريق على العموم بل أراد أن يجعله وصفاً لكل لفرد فكل فرد بعينه ينبغي أن يكون حاذراً فهو ليس مثل ﴿نحن جميع منتصر﴾ الذي هو وصف الجمع لا وصف الأفراد. فإن هذا وصف كل فرد في المجموع. فناسب الجمع ههنا. فأتضح أن كل تعبير هو أنسب في مكانه. والله أعلم.

ﵟ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ﵞ سورة يس - 31


Icon