الوقفات التدبرية

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا...

﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ بعد أن خاطب المجرمين وأمرهم بالانفراد عن المؤمنين خاطب عموم بني آدم وذكرهم بما عهد إليهم من ترك عبادة الشيطان وأمرهم بعبادة الله وحده لأن عاقبة المجرمين تلك إنما كانت بسبب عبادة الشيطان وعدم طاعة الله. ومعنى ﴿ألم أعهد﴾ - كما يقول المفسرون- ألم أوص، والعهد الوصية وعهد إليه إذا أوصاه (1). والحقيقة أن ثمة اختلافاً بين العهد والوصية، فإن العهد أقوى من الوصية ذلك أن العهد يكون بمعنى الموثق واليمين يحلف بها الرجل (2). والفرق بين الذي يعهد والذي يوصي أن العاهد هو صاحب الشأن أما الموصي فقد لا يكون صاحب الشأن فقد يقول لك صديقك: أوصيك بفلان خيراً، وأوصيك ألا تشارك فلاناً في تجارة وأوصيك باستشارة فلان وأخذ نصيحته، فهذه وصية من باب النصح وليس الموصي صاحب الشأن بخلاف ما لو قال: أعهد إليك أمر فلان أي أنزعه من عهدتي إلى عهدتك فتكون أنت مسؤولاً عنه. ومعنى عهد إليه كلفه وحمله الأمر وجعله مسؤولاً عنه وليست وصي كذلك فالعاهد هو صاحب الشأن الذي بيده الأمر. ومن هذا يتضح أن العهد أقوى من الوصية. ولم يسند فعل العهد في القرآن الكريم إلى غير الله تعالى بخلاف فعل الوصية فإنه أسند إلى الله وإلى غيره، قال تعالى ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ البقرة 125 وقال: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ - طه 115 وقال: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ﴾ وقال: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ) - آل عمران 183 في حين قال: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾ - البقرة 132 وقال: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ - النساء 12 وقال: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ - النساء 131 وقد أسند هذا العهد إلى نفسه - شأن غيره من أفعال العهد - لأهمية هذا الأمر وليحملوه محمل الجد والطاعة والعمل به على أتم حال. فلم يبن الفعل للمجهول ولم يسنده إلى الرسل فلم يقل (ألم ُعهد إليكم) أو (ألم يعهد إليكم رسلي) ذلك أن هذا الأمر إنما هو غاية ما خلق له الثقلان فإنهم لم يخلقوا إلا لعبادته سبحانه كما قال تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ - الذاريات 56 وعهده إليهم إنما جاء على ألسنة الرسل بما أنزله عليهم سبحانه (3)، ونداؤهم ببني آدم إشارة إلى عداوة الشيطان لأبيهم آدم وإخراجه من الجنة وذلك ليذكروا ويأخذوا حذرهم، ونظير ذلك أن تذكر شخصاً أوقع شخص آخر بأبيه مصيبة فادحة عمداً من شدة بغضه له ثم جاء يشارك ابنه في مال فينصحه ناصح محذراً فيقول له: يا ابن فلان، تذكيراً له وتحذيراً. جاء في (روح المعاني): "والنداء بوصف البنوة لآدم كالتمهيد لهذا التعليل والتأكيد لعدم جريهم على مقتضى العلم فهم والمنكرون سواء" (4). **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص211إلى ص212 1- ينظر الكشاف 2/59، التفسير الكبير 26/96 2- لسان العرب ﴿عهد﴾ 4/305 3- ينظر التفسير الكبير 26/96، روح المعاني 23/40، الكشاف 2/591 4- روح المعاني 23/40

ﵟ ۞ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﵞ سورة يس - 60


Icon