الوقفات التدبرية

(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي...

﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ المثل هو ما أوردناه في مطلع تفسير هذه الآيات. وقوله (َنسِيَ خَلْقَهُ) من لطيف التذكير والاحتجاج فإنه لو كان ذاكراً لم يسأل ولم يعجب. ولم يكتف بهذا التذكير بل أجاب بحجة ظاهرة ملزمة فقال: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ وهي حجة غنية عن التعليق من حيث الإلزام. و﴿عَلِيمٌ﴾ مبالغة ﴿عالم﴾ فلما قال ﴿بِكُلِّ خَلْقٍ﴾ اقتضى ذلك المبالغة في العلم. "والعدول إلى الاسمية للتنبيه على أن علمه تعالى بما ذكر مستمر ليس كإنشائه للمنشآت"(1). وقد تقول: ولكنه قال في موطن آخر ﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ الأنبياء (81) فقال ﴿عَالِمِينَ﴾ مع ﴿كُلِّ شَيْءٍ﴾ ولم يقل ﴿عليم﴾ مع أن كلمة ﴿شيء﴾ أعم من كلمة ﴿خلق﴾، فلم ذاك؟ فنقول: إن الله سبحانه وصف نفسه بكل صفات العلم وأحواله فوصف نفسه بأنه ﴿يعلم﴾ أي بالفعل الدال على الحدوث والتجدد. ووصف نفسه بأنه ﴿عالم﴾ أي باسم الفاعل نحو ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ وهو أثبت من الفعل وأدوم. ووصف نفسه بأنه عليم وعلام بالمبالغة فجمع لنفسه كل صفات العلم وأحواله إلا أنه يضع كل وصف أو لفظ في مكانه. ولو رجعنا إلى السياق الذي ورد فيه قوله تعالى ﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ لرأينا أن هذا التعبير هو الأمثل في سياقه ذلك إن هذا التعبير وقع في سياق مسألة خاصة جداً وهي مسألة داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث، وتعليم داود صنعة الدروع وتسخير الريح لسليمان فقال (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81).) وهذا من أخص الخاص ولا يقاس من حيث العموم والشمول بما ذكره في آيات يس من خلق الإنسان وخلق السماوات والأرض وغيرها وإحياء الموتى وبعثهم من جديد وذلك يشمل العلم بكل الخلق وذرات ترابهم وما تفرق من أجزائهم. فناسب ﴿عَلِيمٌ﴾ ما ورد فيه و ﴿عَالِمِينَ﴾ ما ورد فيه. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 274 إلى ص 275 1- روح المعاني 23/55.

ﵟ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﵞ سورة يس - 78


Icon