الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ...

برنامج لمسات بيانية ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ والمعنى أنه ما تأتيهم آية من آيات ربهم سواء كانت آية ينزل بها الوحي أم آية من آيات الله في الكون إلا كان شأنهم الإعراض عنها وعدم النظر فيها وتدبرها، فالإعراض عام يشمل الآيات اتى ينزل بها الوحي والآيات الكونية في الأرض والسماء. وهي في دلالتها على الآيات التي ينزل بها الوحي أظهر فإن إعراضهم عنها أشد، وقوله ﴿تأتيهم﴾ يقوى هذا المعنى فإن هذا الفعل يستعمل بكثرة مع آيات الله المنزلة ومع الآيات التي تدل على صدق ما جاء به رسل الله والبراهين التي تؤيدهم وهي المعجزات التي يؤتيها الله رسله لتكون آية على صدقهم. وعلى كل فالتعبير يعم الآيات كلها ويدل على إعراضهم عنها جميعاً. أن هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) فهم يشبهون من قبلهم في الإعراض عما جاءت به الرسل، ومرتبطة بما ذكر من الآيات الكونية وهو قوله (وآية لهم الأرض الميتة .. وآية لهم الليل .. وآية لهم أنا حملنا ذريتهم.. ) فهم معرضون عن الآيات كلها. جاء في (روح المعاني): "والمراد بها أما هذه الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى وسوابغ آلائه تعالى الموجبة للإقبال عليها والإيمان. وإيتاؤها نزول الوحي بها أي ما نزل الوحي بآية من الآيات الناطقة بذلك إلا كانوا عنها معرضين على وجه التكذيب والاستهزاء. وأما ما يعمها والآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وتعاجيب المصنوعات التي من جملتها الآيات الثلاث المعدودة آنفاً. وإيتاؤها ظهورها لهم أي ما ظهرت لهم آية من الآيات التي من جملتها ما ذكر من شؤونه تعالى الشاهدة بوحدانيته سبحانه وتفرده تعالى بالألوهية إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدى إلى الإيمان به عز وجل" (1). وجاء في (التفسير الكبير): "وهذا متعلق بما تقدم من قوله تعالى (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) . ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ يعنى إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا آتوا بالآيات أعرضوا عنها وما التفتوا إليها") (2) وجاء في (فتح القدير): "والمعنى ما تأتيهم من آية دالة على نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلى صحة ما دعا إليه من التوحيد في حال من الأحوال إلا كانوا عنها معرضين وظاهرة يشمل الآيات التنزيلية والآيات التكوينية... والمراد بالإعراض عدم الالتفات إليها وترك النزر الصحيح فيها، وهذه الآية متعلقة بقوله (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي إذا جاءتهم الرسل كذبوا، وإذا آتوا بالآية أعرضوا عنها" (3) . ومن الملاحظ في بناء هذه الآية: 1- إنه نفي بـ﴿ما﴾ ولم ينف بــ﴿لا﴾، ذلك لأنه يريد أن يبين حالتهم التي هم عليها وذلك يكون بـ﴿ما﴾ لأن ﴿ما﴾ تفيد الحال إذا دخلت على المضارع، أما ﴿لا﴾ فعند الجمهور أنها تخلص الفعل للاستقبال، والحق كما حققناه في كتابنا (معانى النحو) أنها تفيد الإطلاق وكثيراً ما يؤتى بها للاستقبال. وهو لا يريد أن يبين حالتهم في المستقبل بل يريد ما هم عليه، فنفي لذلك بما. 2- جاء بالفعل المضارع فقال (ما تأتيهم) لأنه يريد أن يبين أن هذا شأنهم وديدنهم وليدل على الاستمرار، ولم يقل (ما أتتهم)بصيغة الماضي لأنه لا يريد أن يبين حالة ماضية فإن الماضي يفيد الانقطاع لا الاستمرار. جاء في (روح المعاني): " وما نافية وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي" (4) . 3- قال ﴿من آية﴾ فجاء بمن الدالة على الاستغراق وذلك ليشمل الإعراض عن جميع الآيات، ولو قال (ما تأتيهم آية) لاحتمل نفي العموم ولا احتمل نفي الوحدة أي ما تأتيهم آية واحدة إلا كانوا عنها معرضين. 4- أضاف الآيات إلى الرب المضاف إليهم ليبين أن إعراضهم هذا أسوأ إعراض فإن الآيات آيات ربهم المتفضل عليهم بالنعم فكيف يعرضون عنها؟ إذ المفروض أن يشكروا ربهم ويطيعوه لا أن يعرضوا عن آياته، فزادت هذه الإضافة إعراضهم سوءاً، جاء في (روح المعاني): "وإضافة الآيات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترؤا عليه في حقها" (5) 5- قال ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ ولم يقل (إلا أعرضوا عنها) فجاء باسم الفاعل ﴿معرضين﴾ ليدل على أن هذا وصفهم الثابت وأن هذا شأنهم ودأبهم ولم يقل (إلا أعرضوا) بالفعل الماضي فيكون الإعراض حادثاً، وجاء بــ﴿كان﴾ ليدل على أن الإعراض حاصل أصلاً وهو ثابت فيهم ولم يحدث بعد مجيء الآية، فإن الآية إذا جاءت وجدتهم معرضين عنها، جاء في (روح المعاني): "وفي الكلام إشارة إلى استمرارهم على الإعراض حسب استمرار إتيان الآيات" (6) 6- قدم الجار والمجرور ﴿عنها﴾ على اسم الفاعل فقال ﴿إلا كانوا عنها معرضين﴾ ولم يقل (إلا كانوا معرضين عنها) ليدل على أن الإعراض خاص بآيات ربهم فهم لا يطيقون سماع آيات ربهم ولا مواجهة آية من آياته وهم يسمعون ما عداها من الكلام والحديث ولا يعرضون عنه، فكان التقديم للقصر إضافة إلى أن الفاصلة تقتضي هذا التقديم فكان التقديم لأمرين: القصر وفاصلة الآي. جاء في (روح المعاني): "و﴿عن﴾ متعلقة بمعرضين قدمت عليه للحصر الادعائي مبالغة في تقبيح حالهم، وقيل للحصر الإضافي أي معرضين عنها لأعماهم عليه من الكفر، وقيل لرعاية الفواصل" (7). 7- قال ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ فبنى التعبير على الاستثناء المفرغ ولم يقل (إن تأتهم آية من آيات ربهم كأنواعها معرضين) ذلك لأن التعبير القرآني هذا يفيد الدوام وأن ذلك يحصل كلما جاءتهم آية من آيات ربهم، ولا يفيد تعبير الشرط ذلك نصاً، فإنك إذا قلت (إن يأتني محمد أكرمته) أفاد ذلك أنه إن جاءك أكرمته ولا يفيد إنك تكرمه كلما جاءك، فإنك إن أكرمته مرة واحدة كان كلامك صادقاً، أما قولك (ما يأتيني إلا أكرمته) فإنه يفيد أنه كلما جاءك أكرمته. هذا علاوة على أن التعبير بالاستثناء المفرغ يصح معه زيادة ﴿من﴾ الاستغراقية إذا وقعت قبل ﴿إلا﴾ وذلك لوجود النفي أو شبهه ولا يصح ذلك في التعبير الشرطي فلا تقول (إن تأتهم من آية من آيات ربهم كانوا عنها معرضين).

ﵟ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﵞ سورة يس - 46


Icon