الوقفات التدبرية

(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي...

(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ). نسب عيسى إلى أمه ليدل على أنه ليس ابن الله كما يقول الأنصاري وقال يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ولم يقل لهم يَا قَوْمِ كما قال موسى لأنه ليس له نسب فيهم فإن قوم الرجل من كان أبوه منهم وليس لعيسى أب. ولم يرد مرة في القرآن الكريم أن ناداهم ﴿يَا قَوْمِ﴾ . كما أن موسى لم يرد مرة أن ناداهم ﴿يا بني إسرائيل﴾ فإن بني إسرائيل قومه. ونسبة عيسى إلى أمه تمهيد لعدم مناداتهم بـ ﴿يَا قَوْمِ﴾ فإنه لا يحسن أن ينسبه إلى أمه ثم يقول لهم ﴿يَا قَوْمِ﴾ جاء في (الكشاف): وقيل إنما قال ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ولم يقل ﴿يَا قَوْمِ﴾ كما قال موسى لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه (1). وقال ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ فخص رسالته بهم كما قال موسى قبله ليدل على أن رسالته لبني إسرائيل خاصة. وقوله ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ تصديق بنبوة موسى وقوله (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ ) تبشر بالنبي الخاتم سيدنا محمد. ومن أسمائه ﴿أحمد﴾ أيضاً عليه السلام. وجاء بقوله ﴿مُصَدِّقًا﴾ و﴿مُبَشِّرًا﴾ منصوبين على الحال ولم يجئ بهما مرفوعين على تعدد الأخبار وذلك ليدل على أن ذلك مما أرسل به. فإن مصدقاً ومبشراً حالان والعامل فيهما ﴿رسول الله﴾. فدل ذلك على أن هذين من أمور الرسالة التي أرسل بها. ولو قالهما بالرفع لم يفد ذلك تنصيصاً بل لأفاد أنه أخبر عن نفسه بذلك. وقال ﴿مِنْ بَعْدِي﴾ ولم يقل ﴿بعدي﴾ ليدل على أنه ليس بينهما نبي، وذلك لأن ﴿من﴾ تفيد ابتداء الغاية في البعدية. وأما ﴿بعد﴾ من دون ﴿من﴾ فتحتمل البعدية القريبة والبعيدة. ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ . هذا يحتمل أن يكون المقصود به عيسى عليه السلام أي لما جاءهم بالبينات الدالة على صدق رسالته وصدق بشارته وهي المعجزات المؤيد بها من نحو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغيرها من الآيات قالوا هذا سحر مبين. كما يحتمل أن يكون المقصود به محمداً (صلى الله عليه وسلم) أي لما جاءهم بالبينات الدالة على صدقه (صلى الله عليه وسلم) وأنه هو المقصود بالبشارة قالوا هذا سحر مبين. فإن من أرسل إليهم عيسى قالوا لما جاءهم بالبينات هذا سحر مبين. وكذلك قوم محمد (صلى الله عليه وسلم) قالوا القول نفسه. قال تعالى في عيسى ﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ - المائدة 110. وقال في محمد ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ - سبأ (43). وقال فيه أيضاً (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) - الصافات ﴿12 – 15﴾. جاء في (التفسير الكبير) في قوله ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قيل هو عيسى وقيل هو محمد (2). وجاء في (البحر المحيط): الظاهر أن الضمير المرفوع في ﴿جَاءَهُمْ﴾ يعود على عيسى لأنه المحدث عنه وقيل يعود على أحمد (3). لقد ذكر في الآيات التي مرت ثلاثة أقوام: (عدنان بن عبد السلام الأسعد) الأول هم من آمن من قوم محمد وهو قوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ … والثاني هم قوم موسى، والآخرون وهم المكذبون سواء كانوا ممن أرسل إليهم عيسى أو ممن أرسل إليهم محمد. ورتبهم بحسب الإيمان والطاعة فالأولون هم أفضلهم وأطوعهم لله ثم قوم موسى ثم من كفر. هذا إضافة إلى أن هذا الترتيب يتناسب مع مفتتح السورة وهو قوله ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ ﴾ . فإنه بعد أن ذكر المسبحين في السماوات والأرض بدأ بمن يسبحونه في الأرض طوعاً واختياراً وهم المؤمنون بمحمد وهم أكثر المذكورين تسبيحاً له فهم يسبحون الله في صلواتهم وأدبار السجود وفي غير ذلك من الأوقات. ثم انتقل إلى قوم آخرين أقل تسبيحاً وأنأى عن الطاعة، وهم قوم موسى، ثم الذين عصوا وافتروا على الله الكذب وقالوا ﴿هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ . فبدأ بأطوع الجماعات والعباد ثم الذين يلونهم في الطاعة. ثم من هم أبعد عن الطاعة والله أعلم. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 213 إلى ص 215. (1) الكشاف 4/ 98. (2) التفسير الكبير 29/ 315. (3) البحر المحيط 10/ 166.

ﵟ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﵞ سورة الصف - 6


Icon