الوقفات التدبرية

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ...

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. أي ليس ثمة أظلم ممن يفتري على الله الكذب وهو يدعي إلى الإسلام دين الله الحق فيقول إن محمداً ليس هو المقصود بالبشارة أو هو ساحر كذاب. مع علمه بأنه صادق وأن الذي جاء به هو الدين الحق فيظلمون بذلك أنفسهم وغيرهم. فهم يظلمون أنفسهم لأنهم يحرمونها الهدى ويوردونها موارد الهلكة ويدخلونها دار البوار. ويظلمون غيرهم لأنهم يكونون سبباً لمنعهم من الدخول في دين الله فيحملون أوزارهم ومن أوزار أتباعهم. ويظلمون الرسول بنسبته إلى الكذب. جاء في (التحرير والتنوير) في قوله ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ : وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم ظلموا الرسول (صلى الله عليه وسلم) بنسبته إلى ما ليس فيه إذ قالوا هو ساحر. وظلموا أنفسهم إذ لم يتوخوا لها النجاة... وظلموا الناس بحملهم على التكذيب وظلموهم بإخفاء الأخبار التي جاءت في التوراة والإنجيل (1). وقال ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ … فأخرجه مخرج الاستفهام ولم يقل (ولا أظلم مم أفترى...) أو نحو ذلك وذلك ليشارك السامع بالإجابة وليقرر بنفسه أن لا أظلم ممن أفترى على الله الكذب فيقول: لا أحد أظلم منه، فإنه بدل أن يخبر الله بذلك فيقول (ولا أظلم ممن أفترى على الله الكذب) يقرر السامع ذلك بنفسه. وقال: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ فجعل نفي الهداية ختاماً للآية لأنه قال ﴿وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ ۚ ﴾ أي يدعي إلى الهدى فناسب نفى الهدى عنه كما قال في أصحاب موسى ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ لأنهم زاغوا عن الطريق الحق أي مالوا عنه فضلوا فنفى الهدى عنهم ووصفهم بالفسق. وقد تقول ههنا سؤالان: الأول: لم لم يؤكد نفي الهداية كما أكده في موطن آخر. فقد قال في سورة الأنعام ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ - (144). فأكد نفي الهداية بإن فقال ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. والسؤال الآخر هو أنه قال في خاتمة هذه الآية﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ في حين ختمها في آيات متشابهة بغير هذه الخاتمة فقد قال في سورة الأنعام ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۗ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ - (21) فختمها بنفي الفلاح عنهم. وقال في مكان آخر ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ - يونس (17) فسماهم مجرمين لا ظالمين. وفي موطن آخر سماهم كافرين فقال ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ – العنكبوت (68) وأحياناً لا يعقب بشيء بل يكتفي بقوله ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ كما ورد في الكهف – الآية (15) فما السبب في ذلك كله؟ والجواب أن كل تعبير إنما يكون بحسب ما يقتضيه السياق والمقام فإذا احتاج الكلام إلى مؤكد أكد وإن لم يقتض التوكيد لم يؤكد. وإذا اقتضى أن يصفهم بصفة ما وصفهم بها على حسب ما يقتضيه السياق. وإليك إيضاح ذلك. قال تعالى ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ - الأنعام (144). فأكد نفي الهداية بـ ﴿إن﴾ وذلك لأنه زاد على آية الصف قوله ﴿لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ ﴾ فاقتضى ذلك تأكيد نفي الهداية لهؤلاء الذين يضلون الناس بغير علم. هذا إضافة إلى أنه عرّف ﴿الكذب﴾ في آية الصف ونكّره في آية الأنعام فقال في الصف﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ وقال في الأنعام ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾. ومن المعلوم أن ﴿الكذب﴾ معرفة و ﴿كذباً﴾ نكرة. فإذا كان الافتراء في أمر معيّن عرّفه، وإن كان الافتراء عاماً لم ينحصر في شيء معين نكرة (2). فلما كان الافتراء في آية الصف متعلقاً بصفة النبي محمد والتبشير به عرّفه ﴿كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ(17)﴾ وقوله ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ يعني لا أحد أظلم من هؤلاء المفترين فاستحقوا الوصف بالإجرام كالأولين الذين أهلكهم رب العزة. وقال في آية أخرى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ - العنكبوت (68)، فوصفهم بالكفر وذلك لأنه تقدم قبل هذه الآية قوله ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ - العنكبوت (67). فإنه لما تقدم أنهم آمنوا بالباطل وكفروا بنعمة الله وهو الدين الحق ناسب أن يصفهم بالكفر فقال ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾. وأما عدم التعقيب بشيء فذلك أيضاً ما يقتضيه المقام والسياق. قال تعالى ( هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) - الكهف (15). والقائل هنا هم الفتية أصحاب الكهف وهؤلاء ليس بوسعهم أن يقرروا إن كان الله سيهدي قومهم أم لا فإن علم ذلك إلى الله ولذا لم يتعدوا الوصف بقولهم ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فناسب كل تعبير موطنه. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 215 إلى ص 218. (1) التحرير والتنوير 28/ 179.

ﵟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﵞ سورة الصف - 7


Icon