الوقفات التدبرية

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ...

﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ أضاف الرسول إلى ضميره تعالى فقال ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ ولم يقل (هو الذي أرسل محمد) أو (هو الذي أرسل الرسول) وذلك لتكريمه وللدلالة على أنه حافظه ومعزه وناصره فإنه رسوله. والناس في العادة يحمون من يضافون إليهم وينصرونهم فكيف بالله وقد أضافه إلى نفسه سبحانه؟ لقد ذكر أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق. والمقصود بالهدى هي الدلائل التي تدل على صدقه (صلى الله عليه وسلم) من البراهين والمعجزات والبشارات. فالهدى هو ما يدل على أنه رسول من مثل ما أخبر به عن الأمم السابقة وعما سيكون في المستقبل فكان كما أخبر والبشارات التي بشر بها الأنبياء السابقون من ذكر اسمه وصفاته وأن الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وغيرها من الدلائل مما يدل على أنه رسول الله حقاً. وهو من الهدى الذي يهدي الناس إلى الحق. ودين الحق هو ما جاء به من الأحكام والشرائع. جاء في (فتح القدير): ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ﴾ أي بما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات والأحكام التي شرعها الله لعباده. ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ هو الإسلام (1). وجاء في (التفسير الكبير): وأعلم كمال حال الأنبياء صلوات الله عليهم لا تحصل إلا بمجموع أمور: أولها كثرة الدلائل والمعجزات. وهو المراد من قوله ﴿أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ﴾ وثانيهما كون دينه مشتملاً على أمور يظهر لكل أحد كونها موصوفة بالصواب والصلاح ومطابقة الحكمة وموافقة المنفعة في الدنيا والآخرة. وهو المراد من قوله ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ (2). وقد قدم الهدى على دين الحق لأنه مدعاة إلى قبول دين الحق. وقد أضاف ﴿الدين﴾ إلى ﴿الحق﴾ فقال ﴿وَدِينِ الْحَقِّ(33)﴾ وهذه الإضافة جرت في القرآن الكريم على سبيل الاطراد فقد أضاف الدين إلى الحق حيث اجتمعا في القرآن الكريم ولم يصف الدين بالحق إلا إذا أضافه إلى كلمة أخرى كقوله تعالى ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ - النور (25). و﴿الدين﴾ في آية النور هذه بمعنى الجزاء والحساب وهو غير ما نحن فيه من معان. وإضافة الدين إلى الحق لها أكثر من دلالة: منها أن الحق من أسماء الله تعالى. وقد سمى الله نفسه الحق ووصف نفسه بالحق فقال ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ - الحج (6) وقال ﴿ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ - النور (25) وقال ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚ ﴾ - الكهف (44) فلما أضاف الدين إلى كان كأنه قال ﴿دين الله﴾. ولما كان الله هو الحق كان دينه حقاً بل هو الدين الحق. ومنها أن الحق نقيض الباطل فإضافة الدين إلى الحق تعني أنه دين الحق والعدل وشريعته وليس دين الباطل كما تقول: هذا طريق الحق وذلك طريق الباطل. ومنها أن ذلك يحتمل أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته كقولهم مسجد الجامع وحب الحصيد ودار الآخرة وجانب الغربي على تقدير مضاف أو على غير تقدير فيفيد أنه موصوف بحفة الحق على أية حال. فهو دين الله وهو دين الحق وهو الدين الحق، فيكون قد جمع بالإضافة أكثر من معنى ولو وصف الدين بالحق فقال (الدين الحق) لفات أكثر هذه المعاني. وقد تقول: ولم ختمت الآية السابقة بقوله ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ وختمت هذه الآية بقوله ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ؟ والجواب أن خاتمة كل آية مناسبة لما ورد فيها. ذلك أن أصل معنى الكافر في اللغة من كفر إذا ستر وغطى ومنه سمي الزارع كافراً لأنه يستر الحب ويغطيه. وسي الليل كافراً لأنه يستر ما فيه. والكافر الظلمة فلما قال ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾ كان معنى ذلك أنهم يريدون أن يبدلوا النور ظلاماً فكان ذلك كفراً بالمعنى اللغوي. فكان قوله ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ ههنا أنسب. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إن الكفر أعم من الشرك فكل مشرك كافر وليس كل كافر مشركاً، وإن النور أعم من الرسول والدين فجعل العام بمقابل العام والخاص بمقابل الخاص. فلما ذكر النور ذكر في مقابله الكفر. ولما ذكر الرسول والدين ذكر في مقابله الشرك. جاء في (التفسير الكبير): قال في الآية المتقدمة ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ وقال في المتأخرة ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ فما الحكمة فيه؟ فنقول: إنهم أنكروا الرسول وما أنزل إليه وهو الكتاب وذلك من نعم الله والكافرون كلهم في كفران النعم فلهذا قال ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ ، ولأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك. والمراد من الكافرين ههنا اليهود والنصارى والمشركون. وهنا ذكر النور وإطفاءه واللائق به الكفر لأنه الستر والتغطية... وفي الآية الثانية ذكر الرسول والإرسال ودين الحق وذلك منزلة عظيمة للرسول عليه السلام وهي اعتراض على الله تعالى .... والاعتراض قريب من الشرك... ولما كان النور أعم من الدين والرسول لا جرم قابله بالكافرين الذين هم جميع مخالفي الإسلام. والإرسال والرسول والدين أخص من النور قابله بالمشركين الذين هم أخص من الكافرين (3). وهناك لطيفة نذكرها في تناسب التعبير بين الآيتين وهي: 1- أنه قال في الآية السابقة ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾ وقال في هذه الآية ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ﴾ . فجعل النور بإزاء الهدى ذلك أن النور إنما هو للهدى، والخلق إنما يهتدون بالنور كما قال تعالى ﴿وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ﴾ - الشورى (52). وقال (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) - المائدة (15، 16). ۲- أضاف النور إلى الله في الآية السابقة فقال ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾. وأضاف الرسول إلى نفسه سبحانه في هذه الآية فقال : ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾. ٣- قال في الآية السابقة ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ وقال في هذه الآية : ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ ، وإتمام نوره يعني نصره وإظهاره على الدين كله. والله أعلم. قد تقول: لقد قال الله في سورة الفتح ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ - الفتح (۲۸) ولم يقل ﴿ولو كره المشركون﴾ كما قال في سورتي الصف والتوبة فلم ذاك؟ والجواب أنه لم يذكر في سياق آية الفتح محادة المشركين ولا محاربتهم كما ذكر في سياق آيتي التوبة والصف. ولم يقل قبل هذه الآية ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ أو نحو ذلك كما قال في سورتي التوبة والصف وإنما قال قبلها ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ - الفتح (۲۷) فلم يقتض ذلك أن يقول ﴿ولو كره المشركون﴾ كما قال في السورتين. لقد ذكر قبل آية الفتح الوعد بدخول المسجد الحرام آمنين - كما ذكرنا -. وهذا تم بالاتفاق بينهم وبين المشركين في صلح الحديبية فلم يقتض قول ﴿ولو كره المشركون﴾ من كل وجه والله أعلم. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 220 إلى ص 224. (1) فتح القدير 2/ 515. (2) التفسير الكبير 16/ 41. (3) التفسير الكبير 29/316 – 317.

ﵟ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﵞ سورة الصف - 9


Icon