الوقفات التدبرية

(تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ...

﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فسر التجارة بما ذكر من الإيمان والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس فقال ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ولم يقل (أن تؤمنوا بالله ورسوله) وذلك لأكثر من فائدة منها أن ﴿أن﴾ تفيد الاستقبال فلو كان ذكرها لكان يعني أن طلب الإيمان إنما يكون في المستقبل مع أن الإيمان ينبغي أن يكون في الحال، ومنها أنه لو قال ﴿أن تؤمنوا بالله﴾ لكان المصدر المؤول إما أن يكون بدلاً من التجارة أو خبراً عن مبتدأ محذوف على تقدير (هي أن تؤمنوا) وعلى التقديرين يكون عدم ذكر ﴿أن﴾ أولى ذلك أنه إذا كان بدلاً يكون التقدير (هل أدلكم على أن تؤمنوا بالله ورسوله) على تقدير تكرار العامل أو إحلاله محل الأول. وإذا كان ذلك كذلك فلا يصح أن يقول ﴿يغفر لكم ذنوبكم(12)﴾ ... إلخ لأن الدلالة على الشيء لا تعني القيام به، فإنك إذا دللت امرءا على خير لم يفد أن صاحبك فعل ما دللته عليه وأن الدلالة على هذه التجارة لا يعني غفران الذنوب وإدخال الجنة والنصر وإنما العمل بهذه التجارة هو الذي يؤدي إلى ذلك. فقال ﴿تُؤْمِنُونَ﴾ وَ ( تُجَاهِدُونَ) أي تفعلون ذلك. وكذلك إذا كان التقدير خبراً عن مبتدأ محذوف أي: هي أن تؤمنوا. فذلك أيضاً لا يؤدي إلى مغفرة الذنوب وإدخال الجنة والنصر وإنما ذلك هو تفسير لما دلهم عليه فقط. فقوله ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (8)﴾ أي تفعلون ذلك. ثم إن قوله ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (8)﴾ من دون ﴿أن﴾ يفيد الطلب بمعنى آمنوا، وعدل عن الأمر الصريح إلى الخبر للدلالة على أنهم كأنهم امتثلوا لما أمرهم به فهم يفعلونه، ويدلك على أن هذا الفعل بمعنى الطلب قوله ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ بجزم ﴿يغفر﴾ فإنه لو لم يكن ﴿تؤمنون﴾ بمعنى الطلب لم ينجزم ﴿يغفر﴾. وقد تقول: ولكن قد تقدم الطلب وهو الاستفهام أعني قوله ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ﴾ فجاز إجابته بالجزم. فنقول: إن المعنى يأبى ذلك، فإن الدلالة على التجارة لا تستلزم المغفرة وإدخال الجنة وإلا دخل كل الناس الجنة لأنهم دلوا على ذلك بوسيلة من الوسائل وإنما الذي يفضي إلى الجنة والنصر هو الطاعة. جاء في (الكشاف): فإن قلت: لم جيء به على لفظ الخبر؟ قلت للإيذان بوجوب الامتثال فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين(1). لقد فسر التجارة بأمرين وهما: الإيمان بالله ورسوله. والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس، وهذان الأمران ينجيان من العذاب الأليم بأنواعه في الدنيا والآخرة. أما الأول وهو الإيمان فإنه يبعث على الطمأنينة والاستقرار والأمن النفسي والرضا بقضاء الله، وظاهر أن لفظ ﴿الإيمان﴾ له علاقة بالأمن فالنفس المؤمنة إنما هي في أمن وسكينة. وهذا ينجي من العذاب النفسي وعذاب الباطن عموماً. وأما الآخر وهو الجهاد فهو ينجي من العذاب الظاهر كما ذكرنا فإن الشعوب التي لا تجاهد شعوب خانعة مستضعفة. فدل ذلك على أن هذه التجارة تنجي من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة. ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ۚ﴾ ذكر في سبيل الله لأنه الغرض من الجهاد وكل جهاد في غير سبيله فهو باطل لا يفضي إلى جنة ولا ينجي من العذاب الأليم. وقدم ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ على الأموال والأنفس لأنه أهم منهما ههنا. وقد تقول: ولكنه قدم الأموال والأنفس على قوله ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في مواطن أخرى فقد قال في ﴿الأنفال﴾ مثلاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ - (۷۲) وقال في سورة الحجرات (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) - (15) فلم ذاك؟ والجواب أن ذلك بحسب ما يقتضيه السياق، فقد يقتضي السياق تقديم كلمة في موضع ويقتضي تأخيرها في موضع آخر. فإذا كان السياق في حب المال وجمعه مثلاً قدم المال وإذا كان السياق في القتال والجهاد قدم ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أو لغير ذلك من مقتضيات التقديم والتأخير. ففي سورة الأنفال مثلاً قدم المال لأنه. تقدم ذكر المال والغداء والغنيمة من مثل قوله تعالى ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ - الأنفال (67) وهو المال الذي فدى الأسرى به أنفسهم، وقوله ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيم﴾ - الأنفال (68) أي من الفداء. وقوله ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ﴾ - الأنفال (69) وغير ذلك فقدم المال ههنا. لأن المال كان مطلوباً لهم حتى عاتبهم الله في ذلك فطلب أن يبدؤوا بالتضحية به (2). وكذلك التقديم والتأخير في سورتي الصف والحجرات فإن السياق في كل منهما يقتضي تقديم ما قدم ذلك أن الكلام في الحجرات على المؤمنين وصفتهم فقدم ما يتعلق بهم وهو أموالهم وأنفسهم، وإن الكلام في آية الصف على التجارة التي تنجي من عذاب أليم فقدم ما يتعلق بها وهو ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ، هذا إضافة إلى أنه تقدم ذكر القتال في سبيله في أول السورة وهو قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ ، وإن جو السورة يشيع فيه ذكر القتال فاقتضى ذلك تقديم ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ به على الأموال، والله أعلم. ﴿ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إن الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس خير من إيثار الراحة والقعود. صحيح أن القتال مكره إلى النفوس مبغض إليها كما قال تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ - البقرة (216). ولكن في هذا المكروه خيراً كثيرًا فإن الأمة المجاهدة القوية تحمي نفسها وحقها بخلاف الأمة القاعدة الخانعة فإنها تستعبد لكل غاز. وقال ﴿ذَٰلِكُمْ﴾ ولم يقل ﴿ذلك﴾ لأنه أراد أن الخير للأمة جميعها وليس لفرد أو فئة وعلى سبيل الدوام وليس لوقت محدود. وقد تقول: ولكن الله خاطب المؤمنين في موضع آخر وأشار بـ ﴿ذلك﴾ لا بـ ﴿ذلكم﴾. فقد قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ۚ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ - المجادلة (۱۲) فما الفرق؟ والجواب أن الفرق ظاهر. فإن المخاطبين بآية الجهاد هم عموم المؤمنين إلى يوم القيامة بخلاف آية تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول. هذا إضافة إلى أن آية الجهاد أعم حتى في زمن الرسول. فإن الجهاد يشمل الغني والفقير. فقد يجاهد الشخص بماله ونفسه، وقد يجاهد بماله فقط وقد يجاهد بنفسه على حسب استطاعته كما قال تعالى ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ - التوبة (41) بخلاف آية الصدقة فإنها تخص الأغنياء الذين يناجون الرسول خاصة. هذا إضافة إلى أن آية تقديم الصدقة هذه نسخت بعد ذلك بمدة وجيزة وانتهى حكمها فقد قال تعالى بعد هذه الآية: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ۚ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ - (۱۳). أما آية الجهاد فهي آية محكمة سار حكمها إلى يوم الدين فكان ما جاء فيها أهم وأعم وأشمل. والله أعلم. إن ذكر آية الجهاد هذه بعد قوله ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ يدل على أن إظهار الله لدينه إنما يكون بالجهاد لا بكونه هدى ودين الحق فحسب فإن ذلك وحده لا يظهر عقيدة أو فكرة بل لا بد لها من حملة يجاهدون في سبيلها. وقد وعد الله بأنه سيظهر دينه على الدين كله ومعنى ذلك أنه علم أن هذه الأمة ستجاهد في سبيله حتى يظهر الله دينه. وقد تقول: ولكن الله قال في سورة التوبة ذلك ولم يعقب الآية بالجهاد فكيف يصح استدلالك هذا؟ فنقول: كيف يصح هذا القول وسورة التوبة مشحونة بذكر الجهاد والقتال من أولها إلى آخرها؟ فقد تقدم الآية ذكر غزوة حنين. وقال بعدها ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ - (۲۹). وقال بعدها ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ ۚ - (36): وقال بعدها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ (۳۸) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ (۳۹) )إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ (40) ا نْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ (41) .. إلى الآية 52. وذكر بعد ذلك ما يتعلق بالجهاد والقتال أيضاً إلى أواخر السورة فقال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ﴾ (۱۲۳). فالسورة من أولها إلى آخرها تكاد تكون في الجهاد فاتضح ما قلناه. والله أعلم. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 225 إلى ص 229. (1) الكشاف 4/100. (2) التعبير القرآني 67 – 68، وأنظر البرهان للكرماني 203. درة التنزيل 189 – 190.**

ﵟ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﵞ سورة الصف - 11


Icon