الوقفات التدبرية

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي...

﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ قال ﴿يَغْفِرْ﴾ بالجزم وذلك يدل على أن قوله ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ طلب وليس إخباراً، وقال ﴿ذُنُوبَكُمْ﴾ ولم يقل ﴿من ذنوبكم﴾ ليدل على أنه بذلك يغفر الذنوب كلها لا بعضها. ثم قال ﴿وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ وتلك عاقبة من يغفر ذنبه. ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾ فوصف المساكن بأنها طيبة وإنما خصت المساكن بالذكر لأن في الجهاد مفارقة مساكنهم فوعدوا على تلك المفارقة بمساكن أبدية (1). واختيار ذكر ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ ههنا له دلالته أيضا فإن معنى ﴿عدن﴾ الإقامة والبقاء، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به، والإنسان يحب الحياة ويؤثر البقاء ويكره القتال لأنه مظنة مفارقة الحياة وما فيها فذكر له أن المجاهد إنما هو ذاهب إلى مساكن أطيب من مسكنه في دار البقاء فهو إذن يجاهد للبقاء والإقامة الطيبة. فاختيار ذكر المساكن وجنات عدن ههنا اختيار له دلالته. والقرآن يختار بدقة ما يقتضيه المقام والسياق. ونحو هذا الاختيار ما ورد في قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) التوبة (۲۰- ۲۲). فذكر أن لهم جنات فيها نعيم مقيم. واختيار النعيم المقيم له دلالته ههنا وذلك أن هؤلاء لما هاجروا وتركوا مساكنهم جزاهم الإقامة في النعيم فإن المهاجر لابد له أن يقيم ويستريح فجعل ذلك في النعيم المقيم. ﴿ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ وهذا هو الفوز الثاني. والفوز الأول هو النجاة من النار. وقال ﴿ذَٰلِكَ الْفَوْزُ﴾ ولم يقل (ذلك فوز) للدلالة على قصر الفوز عليه وأن كل ما عداه ليس بفوز. ووصفه بـ ﴿الْعَظِيمُ﴾ للدلالة على عظمة الفوز. قد تقول: لقد قال ههنا ﴿ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ . وقال في سورة التوبة في آية شبيهة بها ﴿ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ فأكد القصر بضمير الفصل وذلك في قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ - التوبة (۱۱۱) فما الفرق؟ والجواب أن النظر في النصين يوضح الفرق وسبب التعبير بكل منهما: 1- لقد قال في آية الصف ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ وقال في آية التوبة ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فوصفهم بأنهم مؤمنون ولم يطلب منهم الإيمان ويندبهم إليه. وذكر ذلك بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت. ۲- وقال في آية الصف (تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ۚ) وقال في التوبة ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ . فلم يبق لهم مال ولا نفس فقد اشتراها الله منهم. أما المذكورون في آية الصف فهم يجاهدون بها فلا تزال أموالهم وأنفسهم لهم فلم يذكر أنهم باعوها له. ۳- ذكر في آية الصف أنهم يجاهدون في سبيل الله، وقال في آية التوبة ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والمقاتلة مظنة القتل أما الجهاد فهو عام ومنه القتال. وقوله ﴿يُقَاتِلُونَ﴾ مناسب لاشتراء الأنفس. 4- وذكر في التوبة أنهم يقتلون ويقتلون. ولم يذكر مثل ذلك في آية الصف. فكانت التضحية في التوبة أعلى مما في الصف. والفوز إنما يكون على قدر التضحية، فلما زادوا في التضحية زاد لهم في الفوز وأكده. والله أعلم. ثم إنه قدم في صفقة الشراء الأنفس على الأموال وذلك لأن الأنفس أغلى وأهم من المال فباعوا أنفسهم أولاً وهي أثمن شيء ثم أتبعوها المال. وما قيمة المال إذا فقد المرء نفسه وماذا يعمل به؟ فاقتضى كل تعبير ما هو في موضعه. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 229 إلى ص 231. (1) التحرير والتنوير ج28/195.

ﵟ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﵞ سورة الصف - 12


Icon