الوقفات التدبرية

(آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ...

﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ أمرهم بشيئين: الإيمان بالله والرسول، والإنفاق، وهذا الأمران يطبعان السورة بطابعهما إلى حد كبير. فالإيمان بالله والرسول يشيع ذكره في السورة، وهو لم يذكر جميع أركان الإيمان وإنما خصص ركنين من أركانه بالذكر وهما الإيمان بالله والرسل. وذلك في السورة كلها فلم يذكر غير هذين الركنين من أركان الإيمان. فقد قال ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ - (7) وقال﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۙ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ - (8) وقال (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ۖ ) - (19) وقال ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ﴾ - (21) وقال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾ - (28). وكذلك الأمر بالإنفاق فإنه يطبع السورة أيضاً، فقد قال (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ (7) ) فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ - (7) (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ - (10) ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ (11) (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا - (18) ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ﴾ - (24). فالسورة تكاد تكون مخصصة للإيمان والإنفاق فهي لم تذكر جميع أركان الإيمان كما لم تذكر عموم العمل الصالح وإنما ذكرت الإنفاق وذكرت القتال ولم تأمر به كما أمرت بالإنفاق فقد جاء فيها (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) - (10) وجاء فيها ذكر للشهداء فقال ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ۖ﴾ (19) وقال أيضاً ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ﴾ - (25) وهو من مظان الجهاد. فالسورة كما ترى يشيع فيها التخصيص بركنين من أركان الإيمان وبالإنفاق. والآية التي نحن بصدد تفسيرها ما ذكر فيها هذين الركنين. ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ﴾ طلب الإنفاق مما استخلفنا فيه ورغبنا فيه أكبر ترغيب فقال: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا ﴾ فجاء بـ ﴿من﴾ التبعيضية ولم يقل (وأنفقوا ما جعلكم مستخلفين فيه) فقد طلب أن ننفق بعضاً مما استخلفنا فيه ليهون الإنفاق علينا. ثم قال ﴿جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ أي هو الذي جعلكم مستخلفين في المال وهو طالب الإنفاق. ومعنى ﴿مُسْتَخْلَفِينَ﴾ أن الأموال التي بين أيديكم إنما هي أمواله، هو الذي خلقها وخولكم الاستمتاع بها ولستم إلا وكلاء عليها. ثم إنه نقلها إليكم وقد كانت لغيركم ثم إنه سينقلها إلى غيركم فلستم إلا خلفاء من قبلكم فيها. وكل معنى من هذين المعنيين مدعاة للخروج من الشح إلى الإنفاق. فالمال ماله ثم إنه سينقله منكم إلى غيركم بعد موتكم أو في حياتكم. ومع ذلك فإنه جعل للذين آمنوا وأنفقوا أجراً كبيراً مضاعفاً. جاء في (الكشاف): ﴿مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ﴾ يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها. وإنما موّلكم إياها وخوّلكم الاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها. فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم إلا بمنزلة الوكلاء والنواب. فأنفقوا منها في حقوق الله وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم في أيديكم بتوريثه إياكم. فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم وسينقل منكم إلى من بعدكم فلا تبخلوا به وانفعُوا بالإنفاق منها أنفسكم (1). وجاء في (روح المعاني): وفيه أيضاً ترغيب في الإنفاق وتسهيل له لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله وانتقل إليه علم أنه لا يدوم له وينتقل لغيره فيسهل عليه إخراجه ويرغب في كسب الأجر بإنفاقه... والمعنى الأول هو المناسب لقوله تعالى ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ ﴾ (2). ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ ذكر أن لمن آمن وأنفق أجراً كبيراً. وقد تقول لقد أكد الأجر في موطن آخر بإنّ فقد قال في سورة الإسراء: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ - (9) ولم يؤكده في آية الحديد هذه مع أنه وصف الأجر بأنه كبير في الآيتين فهل ذلك لفواصل الآي؟ والجواب أن فاصلة كل من الآيتين تتناسب مع فواصل الآي في سياقها غير أن ذلك ليس هو السبب الأول بل إن كل آية تقتضي ما ورد فيها من التعبير وإن لم تكن فواصل الآي كذلك. وإليك إيضاح ذلك: 1- قال في آية الحديد ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ وقال في آية الإسراء ﴿وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فذكر في آية الحديد ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بصيغة الفعل وذكر في آية الإسراء ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالصيغة الاسمية، والاسم أثبت وأقوى من الفعل كما هو معلوم. ۲- خصص الإيمان في آية الحديد بالإيمان بالله والرسول: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ، وأطلق الإيمان في آية الإسراء فجعله عاماً لكل أركان الإيمان . ٣- ذكر في آية الحديد الإنفاق ولم يذكر معه شيئاً آخر. وذكر في آية الإسراء ﴿الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ﴾ وهو أعم. والإنفاق إنما هو من العمل الصالح، فكان التوكيد أولى في آية الإسراء: فناسب كل تعبير موطنه هذا إضافة إلى ما اقتضته فواصل الآي. وقد تقول: لقد أضاف في آيات أخرى المغفرة إلى الأجر الكبير وذلك نحو قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ - فاطر (7) وقوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ - الملك (12): فما السبب في هذه الزيادة؟ فنقول: إن كل ما ذكرت فيه المغفرة مع الأجر الكبير إنما هو في سياق ذكر الذنوب والكافرين وذلك يقتضي ذكر المغفرة. أما ما لم يرد فيه المغفرة فإنه ليس في هذا السياق. فقد قال في سورة فاطر: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ - (7) وقال في سورة الملك: ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(6)﴾..إلى قوله تعالى: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ - ﴿7 - 11﴾ ثم قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ . وهكذا كل ما وردت فيه المغفرة بخلاف ما لم يرد. فناسب كل تعبير موطنه. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 246 إلى ص 249. (1) الكشاف 4/61، وأنظر تفسير الرازي 29/217. (2) روح المعاني 27/259.

ﵟ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﵞ سورة الحديد - 7


Icon