الوقفات التدبرية

(وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۙ وَالرَّسُولُ...

﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۙ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لما تقدم طلب الإيمان في الآية السابقة قال في هذه الآية ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ أي كيف لا تؤمنون ولم لا تؤمنون ودواعي الإيمان متكاثرة ملزمة؟ فالرسول يدعوكم للإيمان وقد جاء بالآيات البينات والدلائل الواضحة على صحة ما يدعو إليه وصدقه. ثم إن الله سبحانه قد أخذ الميثاق منكم على الإيمان به بما أودعه في عقولكم من الاستدلال على وجوده بآياته الكونية وبما أودعه في فطركم على الإيمان به. فإن الإنسان مفطور على الإيمان بأن له رباً وإلهاً يلجأ إليه إذا اضطرته الحاجة إلى ذلك، فحتى الملحد إذا وقع في شدة لا مخلص منها وانقطعت به الأسباب لجأ إلى الله كما أخبر ربنا ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ - النحل (53) - ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ ﴾ - الإسراء (67). فقد تضافرت الدواعي العقلية والنفسية علاوة على السماع المؤيد بالحجج القاطعة على الإيمان بالله فلم لا تؤمنون؟ وجاء في (الكشاف) في قوله ﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾ وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان حيث ركب فيكم العقول ونصب لكم الأدلة ومكنكم من النظر وأزاح عللكم (1). وجاء في (تفسير الرازي): وحاصل الأمر أنه تطابقت دلائل النقل والعقل، أما النقل فبقوله ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ﴾ وأما العقل فبقوله ﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ ﴾ ومتى اجتمع هذان النوعان فقد بلغ الأمر إلى حيث تمتنع الزيادة عليه (2). وجاء في (البحر المحيط): ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ﴾ أي كيف لا تثبتون على الإيمان ودواعي ذلك موجودة، وذلك رُكزة فيكم من دلائل العقل، وموجب ذلك من السمع في قوله ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ﴾ لهذا الوصف الجليل، وقد تقدم أخذ الميثاق عليكم بالإيمان فدواعي الإيمان موجودة وأسبابه حاصلة فلا مانع منه ولا عذر في تركه (3). وجاء في (التحرير والتنوير): وعلى هذا الوجه فالميثاق المأخوذ عليهم هو ميثاق من الله. أي ما يماثل الميثاق من إيداع الإيمان بوجود الله وبوحدانيته في الفطرة البشرية، فكأنه ميثاق قد أخذ على كل واحد من الناس في الأزل وشرط التكوين فهو ناموس فطري (4). وقوله ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يعني إن كنتم تنوون الإيمان وتعتزمونه فلم لا تؤمنون؟ وهو نظير قولنا (نحن خارجون إن كنت خارجاً) و(هم راحلون إن كنت راحلاً) أي إن نويت ذلك وعزمت علية فافعل. جاء في (التحرير والتنوير): واسم الفاعل في قوله ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مستعمل في المستقبل بقرينة وقوعه في سياق الشرط أي فقد حصل ما يقتضي أن تؤمنوا من السبب الظاهر والسبب الخفي المرتكز في الجبلة (5). وقال ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ ولم يقل (لتؤمنوا به) مع أنه قد مر ذكره وهو قوله ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۙ﴾ وذلك لأنه أراد أن يحبب إليهم الإيمان فإنه إيمان بربهم الذي يربهم ويرعاهم. ثم إن لفظ ﴿الرب﴾ مناسب لما ذكر بعد وهو قوله ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ فإن مهمة الرب الأولى في التوجيه والإرشاد والهداية. فناسب ذلك ما جاء بعده. وقال ﴿يَدْعُوكُمْ﴾ للدلالة على استمراره في الدعوة لم يتوقف عنها. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 249 إلى ص 251. (1) الكشاف 4/62. (2) تفسير الرازي 29/18، وأنظر روح المعاني 27/ 261. (3) البحر المحيط 10/102. (4) التحرير والتنوير 27/370. (5) التحرير والتنوير 27/370.

ﵟ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۙ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﵞ سورة الحديد - 8


Icon