الوقفات التدبرية

(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ...

(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) قال: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بذكر ﴿أن﴾ مع ﴿لا﴾ وقال في الآية السابقة ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۙ ﴾ من دون أن ذلك أن ﴿أن﴾ تفيد الاستقبال فلما كان الإيمان لا يحتمل التأخير وإنما هو مطلوب منهم في الحال لم يذكر ﴿أن﴾. ولما كان الإنفاق في سبيل الله يحتمل الاستقبال وقد يكون هذا الإنفاق مطلوباً للجهاد والجهاد ليس قائماً في وقت طلب جاء بأداة الاستقبال. والمعنى: لم لا تنفقون في سبيل الله والله سبحانه وارث أموالكم أي مهلكهم وستؤول إليه أموال الخلق كلها بل له ميراث السماوات والأرض فأنفقوا منها بأنفسكم لتنالوا جزاء المنفقين قبل أن تؤول إليه رغماً عنكم فينالكم عقاب الممسكين الباخلين. جاء في (الكشاف): ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا ﴾ في ألا تنفقوا ﴿ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره. يعني وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله يهلككم فوارث أموالكم. وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله (1). وجاء في (تفسير الرازي): والمعنى أنكم ستموتون فتورثون فهلا قدمتموه في الإنفاق في طاعة الله، وتحقيقه أن المال لابد وأن يخرج عن اليد إما بالموت وإما بالإنفاق في سبيل الله. فإن وقع على الوجه الأول كان أثره اللعن والمقت والعقاب. وإن وقع على الوجه الثاني كان أثره المدح والثواب وإذا كان لابد من خروجه عن اليد فكل عاقل يعلم أن خروجه عن اليد بحيث يستعقب المدح والثواب أولى منه بحيث يستعقبه اللعن والعقاب (2). وقوله (لِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) مناسب لاسمه الآخر الذي ورد في أول السورة. وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر أي إليه وحده يؤول ميراث السماوات والأرض لا إلى غيره ولا إلى شريك معه. ( لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) أي لا يستوي منكم من أنفق قبل فتح مكة، قبل عز الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقلة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ومن أنفق من بعد الفتح. فحذف لوضوح الدلالة، (أُولَٰئِكَ) الذين أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار... أعظم درجة (3). وجاء في (روح المعاني): وإنما كان أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين وكثرة أعدائهم وعدم ما ترغب في النفوس طبعاً من كثرة الغنائم فكان ذلك أنفع وأشد على النفس وفاعله أقوى يقيناً بما عند الله تعالى وأعظم رغبة فيه ولا كذلك الذين أنفقوا بعد (4). واستعمل لمن أنفق من قبل الفتح الاسم الموصول ﴿من﴾ والفعل (أنفق وقاتل) بالإفراد. واستعمل لمن أنفق بعد ذلك الاسم الموصول ﴿الذين﴾ والفعل (أنفقوا وقاتلوا) بضمير الجمع ولعل ذلك لقلة المنفقين والمقاتلين قبل الفتح فاستعمل لهم ضمير المغرد بخلاف المنفقين والمقاتلين بعده فهم كثرة فاستعمل لهم ضمير الجمع. والقرآن يراعي ذلك في الاستعمال نظير قوله ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ۚ﴾ بالإفراد وقوله ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ۚ ﴾ بالجمع (5). وقدم الإنفاق على القتال وهو نظير قوله ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ بتقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 252 إلى ص 253. (1) الكشاف 4/62. (2) تفسير الرازي 29/219. (3) الكشاف 4/62. (4) روح المعاني 27/264. (5) أنظر معاني النحو 1/146 (باب الاسم الموصول).

ﵟ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﵞ سورة الحديد - 10


Icon