الوقفات التدبرية

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ...

﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَه وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ُ﴾ القرض الحسن هو الإنفاق بإخلاص النية لله وكونه عن طيب نفس وبشاشة وجه من دون منٌ أو تكدير وتحري المال الطيب الكريم وأفضل الجهات التي ينفق فيها (1). فالقرض الحسن هو ما اجتمعت فيه عدة أمور: منها في المقرض وهو الإخلاص وكونه عن طيب نفس وبشاشة وجه كما ذكرنا. ومنها في المال وهو أن يكون حلالاً طيباً وأن يكون من كريم المال ومنها الجهة التي ينفق فيها وهي ما كان أشدها حاجة وأكثرها نفعاً للمسلمين وسمى الصدقة قرضاً لأنه وعد بإعادتها مضاعفة. وذلك لأن المقترض يعيد ما اقترض وذلك لتهوينها على النفس وللترغيب فيها فإن الناس يسهل عليها الإقراض أكثر مما يسهل عليها الخروج عن المال من غير إعادة. قد تقول: لقد قال في آية أخرى:﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ - البقرة (245). فذكر في هذه الآية أنه يضاعف القرض أضعافاً كثيرة ولم يقل في آية الحديد ذلك وإنما قال ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ فلم ذاك؟ والجواب أنه قال في آية الحديد ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ فزاد الأجر الكريم على المضاعفة فأغنى ذلك عن قوله ﴿أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ﴾ ولم يقل مثل ذلك في البقرة جاء في (البحر المحيط): والظاهر أن قوله ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ هو زيادة على التضعيف المترتب على القرض أي وله مع التضعيف أجر كريم (2). والأجر الكريم: هو الحسن البالغ الجودة والجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل (3). فذكر جزاء القرض الحسن في الكم وهو المضاعفة وفي الكيف وهو وصفه بالكرم. وقد تقول: ولكنه ذكر في البقرة الأضعاف الكثيرة وهو الكم ولم يذكر الكيف ثم إن خاتمة كل من الآيتين تختلف عن الأخرى فلم ذاك؟ فنقول إن سياق كل من الآيتين يقضي بذاك فإن آية الحديد وردت في سياق الإنفاق. فقد تكرر طلب الإنفاق في السورة فقد قال قبل الآية ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ وقال بعد ذلك ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ … ثم جاءت الآية ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ ، في حين لم يكن الإقراض في البقرة في سياق الإنفاق وإنما هو في سياق القتال فناسب ذلك ذكر الجزاء في آية الحديد بالكم والكيف. كما ناسب أن يكون ختام كل آية السياق الذي وردت فيه فلما كان السياق في البقرة في ذكر الموت والقتال ناسب أن يكون ختام الآية ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فإن الموت رجوع إلى الله والقتال مظنة الرجوع إليه، فقد قال في سياق آية البقرة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ - (243) ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾– (244) ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا(11)﴾ (245) ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ (246)﴾ (246) ويستمر الكلام على القتال، فناسب ختام كل آية السياق الذي وردت فيه. وقد تقول: لقد قال في آية سابقة من السورة ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ وقال في هذه الآية ﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ فوصف الأجر في الآية الأولى بأنه كبير ووصفه هنا بأنه كريم فما السبب؟ والجواب والله أعلم أنه ذكر في الآية الأولى الذين آمنوا وأنفقوا فزاد الإيمان على الإنفاق فكبرت الدائرة واتسعت فوصف الأجر بأنه كبير. وفي الآية الأخرى ذكر مضاعفة الأجور وهذا من الكرم، فالذي يعطي الكثير على القليل إنما هو كريم، ومن معاني ﴿الكريم﴾ في اللغة الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه (4). فناسب ختام كل آية الموطن الذي ورد فيه، والله أعلم. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 252 إلى ص 255. (1) ينظر روح المعاني 27/266. التحرير والتنوير 27/377. (2) البحر المحيط 10/104. (3) لسان العرب ﴿كرم

ﵟ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﵞ سورة الحديد - 11


Icon