الوقفات التدبرية

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ...

﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ ﴿يَوْمَ تَرَى﴾ : يجوز أن يكون ﴿يَوْمَ تَرَى﴾ ظرفاً لقوله تعالى﴿وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ أي له أجر كريم في ذلك اليوم، أو على تقدير (اذكر يوم ترى المؤمنين) تعظيماً لذلك اليوم (1). وذكر المؤمنين والمؤمنات كما ذكر بعد ذلك المنافقين والمنافقات والمصدقين والصدقات لتنال البشري جميع من آمن وينال التبكيت جميع من نافق. ﴿يَسْعَىٰ نُورُهُمْ﴾ قال ﴿يَسْعَىٰ﴾ ولم يقل ﴿يمشي﴾ للدلالة على إسراعهم أو الإسراع بهم للدخول إلى الجنة وإلا لو كان النور يسعى وهم يمشون لسبقهم النور وتركهم في الظلمة. وأسند السعي إلى النور ولم يقل ﴿يسعون﴾ لأن السعي قد يفضي بهم إلى الجهد والتعب فأسند السعي إلى النور للدلالة على أنه يسعى بهم في مراكب أو محاف أو مطايا أو بغير ذلك وذلك على الصراط يوم القيامة وهو دليلهم إلى الجنة (2). وأضاف النور إليهم فقال ﴿نُورُهُمْ﴾ ولم يقل (يسعى النور) للدلالة على أنه نور أعمالهم فيعطى لكل مؤمن نورٌ على قدر عمله. ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ ذكر هاتين الجهتين لأن ما بين أيديهم هو الأمام وهي جهة السير والسعي. والأيمان هي جهة إيتاء كتب السعداء ولم يذكر الشمائل لأنها جهة كتب الأشقياء، جاء في (الكشاف): وإنما قال ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم (3). قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا) الانشقاق (10، 11). وقال ﴿بِأَيْمَانِهِمْ﴾ ولم يقل (عن أيمانهم) للدلالة على أن النور ملاصق للأيمان وليس مبتعداً أو منحرفاً عنها. وقال ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ ولم يقل ﴿المسلمين والمسلمات﴾ لإخراج المنافقين والمنافقات الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم وقد أسلموا ظاهراً كما قال تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ - البقرة (8) وقال ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ ﴾ - الحجرات (14). ﴿بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ حذف القول أي مقولاً لهم أو يقال لهم لإرادة أن الأمر مشاهد مرئي مسموع وليس إخباراً عن غائب فأنت ترى المؤمنين وتسمع القول من دون أن تخبر بذاك. والدليل على ذلك قوله ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ فذكر الرؤية مما يدل على أن الأمر مشاهد لا منقول سماعاً. والمراد بالبشرى ما يبشَر به أي ما تبشّرون به جنات (4). وذكر ﴿الْيَوْمَ﴾ لأن ذلك كائن في ذلك اليوم وليس بعده فهو قريب واقع. وقوله ﴿ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ واقع على جميع ما مر ذكره في الآية وآخره الجنة. فالنور الذي يسعى بين أيديهم وبإيمانهم فوز عظيم، والبشري فوز عظيم والجنات فوز عظيم والخلود فيها فوز عظيم، والذي يدل على أن البشري فوز عظيم قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) - يونس (63، 64). وعرف الفوز وجاء بضمير الفصل للدلالة على القصر وعلى أن ذلك وحده هو الفوز العظيم وليس ثمة فوز غيره وأن ما عداه هو الخسران المبين. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 255 إلى ص 257. (1) أنظر الكشاف 4/ 63. تفسير الرازي 29/ 223. (2) فتح القدير 5/ 240. (3) الكشاف 4/ 63. (4) أنظر روح المعاني 27/ 268 – 269.

ﵟ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﵞ سورة الحديد - 12


Icon