الوقفات التدبرية

(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ۖ) استعمل الفعل...

﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ۖ﴾ استعمل الفعل ﴿يُنَادُونَهُمْ﴾ وقد استعمل قبل قليل الفعل ﴿يقول﴾ ذلك لأنه صار بينهم حاجز فاحتاجوا إلى رفع الصوت للنداء. ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ۖ﴾ ولم يقولوا (ألم نكن منكم) لأنهم كانوا معهم ولم يكونوا منهم ولذلك أجابوهم بـ ﴿بَلَىٰ﴾ ولو قالوا (ألم نكن منكم) لأجابوهم بكلا. ﴿قَالُوا بَلَىٰ﴾ ولم يقل (فنادوهم بلي) ذلك أنه حيث استعمل القرآن الفعل ﴿نادى﴾ أو متصرفاته يكون الجواب بفعل القول وذلك نحو قوله تعالى (وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ) - هود (42، 43). ﴿وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي أوقعتموها في الفتنة واختيار هذا الفعل اختيار رفيع فإن ﴿فتن﴾ له معان كثيرة أكثرها مراد هنا. فمن معانيه إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته. وأنتم وضعتم أنفسكم في هذا الموضع ففتنتم أنفسكم وبانت رداءتكم وخسة معدنكم. ومن معانيه الامتحان والاختبار وقد وضعتم أنفسكم في هذا الموضع أيضاً فأوقعتم أنفسكم في الفتنة والاختبار والامتحان لأنكم أظهرتم الإيمان وأبطنتم الكفر فتقولون للمؤمنين نحن معكم وتقولون للكافرين: إنَا معكم، ولا شك أن كل فريق يختبركم ويمتحنكم ليتبين أأنتم معه أم عليه. ثم إن هذا الأمر يحتاج إلى موازنة الموقف وإظهار تعامل خاص لكل فريق وهذا امتحان أيضاً لبيان القدرة على السلوك المتناقض الذي يرضي الطرفين المتباينين فأنتم وضعتم أنفسكم تحت الاختبار والمراقبة من كل فريق ومن أنفسكم أيضاً. ومن معانيه الشدة والتعذيب ومنه قوله تعالى ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ - البقرة (191) وقوله ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ۚ ﴾ - يونس (83) أي يعذبهم. وأنتم فتنتم أنفسكم فأوقعتموها في الشدة والتعذيب في الدنيا والآخرة بالتربص والخوف ومحاولة إخفاء الحقيقة بصورة مستمرة ولجوئكم إلى الكذب والمراوغة واختلاق المعاذير، وفي الآخرة أنتم كما ترون. ومن معانيه إدخال الإنسان النار (1)، قال تعالى (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَٰذَا) - الذاريات (13، 14) وأنتم فتنتم أنفسكم في الدنيا والآخرة وأوقعتموها في المحنة والعذاب وأدخلتموها النار فأنتم الذين فتنتم أنفسكم. جاء في (الكشاف): ﴿فتنتم أنفسكم﴾ محنتموها بالنفاق وأهلكتموها (2). ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ وتربصهم مطلق فهم كانوا يتربصون بالمؤمنين الدوائر ليتمكنوا من إعلان كفرهم صراحة، وكانوا أيضاً يتربصون ظهور أحد الفريقين وانتصاره ليعلنوا أنهم كانوا معه كما قال تعالى ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۚ﴾ – النساء (141). فالفتنة هذه تقتضي التربص للانتفاء من كل فريق. وهذا التربص يفضي إلى الريبة فيمن سيفوز ويربح ليعلنوا أنهم معه فقال ﴿ارْتَبْتُمْ﴾ أي شككتم في أمر محمد وهل هو على حق. وارتبتم فلا تعلمون أي فريق سيغلب. ولما لم يتبين لكم الأمر على حقيقته (غَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ) وخدعتكم وقلتم: لعله سيُغلب محمد، وبقيتم في هذه التمنيات الخادعة حتى جاءكم أمر الله وهو الموت. هذا علاوة على ما خدشكم به الشيطان وشركم بالله وقال لكم: إن الله سيغفر لكم ولا يعذبكم (3). فغرتكم أماني أنفسكم والشيطان. إن هذه المذكورات مرتبة ترتيباً منطقياً يفضي أحدها إلى الآخر. فهم فتنوا أنفسهم بأن أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر فكان عليهم التربص والانتظار، ولذا كان التربص من أثر الفتنة والاختبار. ثم لما طال التربص ولم تظهر له نتيجة حاسمة داخلتهم الريبة والشكوك فيمن سيظهر ويغلب. وبعدها جاء دور الأماني الخادعة تغرّهم وتمنيهم. ثم إن الشيطان ولج لئلا تصحو ضمائرهم ويخافوا بطش الله فغرهم بالله وهون عليهم الأمر واستمروا على ذلك حتى جاء أمر الله ورحلوا عن الدنيا منافقين مغرورين من أنفسهم ومن الشيطان فسوف يلقون غيّا. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 259 إلى ص 261. (1) أنظر المفردات في غريب القرآن ﴿فتن﴾. (2) الكشاف 4/36. (3) أنظر الكشاف 4/63، تفسير الرازي 29/337. البحر المحيط 10/106.

ﵟ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﵞ سورة الحديد - 14


Icon