الوقفات التدبرية

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ...

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (يَأْني) مضارع ﴿أنى﴾ ومعنى ﴿أنى﴾ حان ونضج. (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) معناه ألم يحن لهم ذلك؟ ﴿أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أسند الخشوع إلى القلوب. والخشوع أمر مشترك بين القلب والجوارح. فهو يسند إلى الأبصار وإلى الوجوه وإلى الأصوات فيقال: بصر خاشع ووجه خاشع وصوت خاشع. كما يسند إلى الشخص كله فيقال رجل خاشع أي خاضع كما قال تعالى: ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ - الأنبياء (90) وقال ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ﴾ - الشورى (45). والخشوع هو الخضوع والخشية والذل. فخشوع القلب خضوعه وخشيته ووجله وتذلله. فطلب من المؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق. وذكر الله عام، وما نزل من الحق هو القرآن. وكل منهما مدعاة إلى الخشوع والخشية. فذكر الله مدعاة إلى الخشوع والخشية كما قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ - الأنفال (2). وقال (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) - الحج (34، 35). والقرآن مدعاة إلى الخشية والوجل كما قال (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ۩) - الإسراء (107، 109). وقال ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ﴾ - الحشر (۲۱) وقال ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ﴾ - الزمر (23). والقرآن ذكر وقد سماه الله ذكراً فقد حكي عن الكفار قولهم: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ۖ﴾ - ص (8) وقال: ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾ - طه (99) وقال (وقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) - الطلاق (10) وقال: ﴿وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ۚ ﴾ - الأنبياء (50). فإذا كان علماء أهل الكتاب يزيدهم القرآن خشوعاً. وإذا كان الجبل يتصدع منه خاشعاً لله فكيف لا يخشع قلب المؤمن له؟ لقد ذكر ثلاثة أمور كل منها يستدعي الخشية: 1- كون المخاطبين مؤمنين وهذا يستدعي الخشية. 2- ذكر الله وهو مدعاة إلى الخشية. ۳- ما نزل من الحق أي القرآن وهو مدعاة إلى الخشية. وهذه الآية نظير قوله تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ - الأنفال (2) (1) فقد ذكر فيها ذكر الله وذكر آياته. وقد تقول: إذا كان المراد خشوع القلب فلم لم يقل مثلاً (ألم يأن لقلوب المؤمنين أن تخشع لذكر الله) أو (ألم يأن أن تخشع قلوب المؤمنين لذكر الله) ونحو ذاك وقال (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) ؟ والجواب أن ذلك لجملة أسباب منها: أنه حذرهم من أن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب وليس كقلوب الذين أوتوا الكتاب فقال ﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ فناسب أن يكون الكلام على المؤمنين بمقابل ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ . ومنها أنه قال ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ وهذا وصف للأشخاص لا للقلوب فأراد أن يحذرهم من أن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب في قسوة القلوب وفسق كثير منهم. فناسب قوله (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أن يكون بمقابل ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ . ومنها أنه ذكر المؤمنين وقلوبهم وذكر أهل الكتاب وقلوبهم فناسب ذلك ألطف مناسبة. وقال ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ ولم يقل ﴿آتيناهم الكتاب﴾ لأنه في مقام الذم لهم ومن سعة التعبير القرآني أنه إذا ذم أهل الكتاب بني الفعل للمجهول فقال: ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ وإذا مدحهم أسند الفعل إلى نفسه تعالى فقال: ﴿آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ (2). ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ﴾ بين أن طول الأمد يقسي القلوب فحذرنا من أن نكون كذلك فإنه ينبغي أن نتعهد قلوبنا وألا ندع للقسوة سبيلاً إليها. وفي ذكر الله وما نزل من الحق غناء وكفاية لحياة القلوب وخشوعها. وأسند القسوة إلى القلوب وذلك بمقابل إسناد الخشوع إلى القلوب أيضاً. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه لم يسند القسوة في القرآن الكريم إلا للقلوب ولم يسندها إلى غيرها، قال تعالى ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ ﴾ - البقرة (74) ﴿وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ - الأنعام (43) وقال ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ ﴾ - المائدة (13) وقال ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ﴾ - الزمر (22) وغيرها. وذلك أنه إذا قسا القلب قسا صاحبه وإذا خشع القلب خشعت الجوارح. وقد تقول: ولم قال ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ من قبل فذكر ﴿ مِنْ قَبْلِ﴾ ولم يقل (كالذين أوتوا الكتاب فطال عليهم الأمد) من دون أن يذكر ﴿من قبل﴾؟ والجواب أنه لو قال ذلك لم يدل على أن الأولين قست قلوبهم بل لربما دل على أن المعنيين هم المعاصرون لزمن الرسول. فلما قال ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ دل على أن آباءهم الأولين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم فما بالك بهؤلاء وقد تطاول عليهم الزمن؟ فذمهم وذم أسلافهم بخلاف ما لو حذف ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ . ثم إنه حذرهم من أن يكونوا كأولئك الأولين فما بالك بالآخرين؟ فيكون التحذير عن التشبه بهؤلاء أشد وأشد. ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ ذكر أن كثيراً منهم فاسقون خارجون عن طاعة الله، ومجيء هذا القول بعد قوله ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ﴾ يدل على أن قسوة القلب من أسباب الفسوق ودواعيه. وبالمقابل يكون خشوع القلب من أسباب الطاعة ودواعيها. وقد تقول: لقد قال في أكثر من موطن إن أكثرهم فاسقون بصيغة اسم التفضيل وقال ههنا (كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ9 فما حقيقة الأمر؟ أإن كثيراً منهم فاسقون أم إن أكثرهم فاسقون؟ وما السبب في هذا الاختلاف في التعبير؟ والجواب أنه لا تناقض بين قوله (إنَ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) وقوله: (إنَ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) ، فقوله (إنَ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) يعني أن كثيراً منهم فاسقون. وإنما التناقض يكون لو قال (إن قليلاً منهم فاسقون) أو (إن أقلهم فاسقون). فقولك (محمد أفضل الناس) لا يناقضيناقض قولك ﴿هو عالم﴾ ولكنه يناقض قولك (هو أجهل الناس) أو هو جاهل. أما لماذا عبر عن ذلك مرة بقوله ﴿كثير﴾ ومرة بـ ﴿أكثر﴾ فهذا ما يقتضيه سياق كل تعبير. فإنه يعبر بـ ﴿أكثر﴾ إذا كان السياق في تعداد أسوأ صفاتهم والإطالة في ذكرها بخلاف الوصف بـ (کثیر) فإنه لا يبلغ ذلك المبلغ، وإليك إيضاح ذلك: لقد جاء الوصف بـ ﴿أكثر﴾ في موضعين وهما قوله (إنَ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) - المائدة (59) وقوله ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ - آل عمران (110). وبالنظر في سياق كل من الآيتين يتضح ما ذكرته. فقد جاء في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )…. ويستمر في تعداد مساوئهم إلى الآية الخامسة والستين [57 – 65] فناسب قوله ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ(59)﴾ وكذلك الأمر في آل عمران فقد ذكر أهل الكتاب ومساوئهم وأعاد ذكرهم وذكرها أكثر من مرة. من ذلك ما ذكره من الآية الخامسة والستين إلى الآية الثامنة والسبعين. ومن الآية الثامنة والتسعين إلى الآية الواحدة بعد المائة. ومن الآية العاشرة بعد المائة إلى الآية الخامسة عشرة بعد المائة عدا المواطن الأخرى المنتشرة في السورة. فناسب أن يذكر ذلك بقوله ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ والله أعلم. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 266 إلى ص 270. (1) أنظر الكشاف 4/64. (2) أنظر معاني النحو 2/496 وما بعدها.

ﵟ ۞ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﵞ سورة الحديد - 16


Icon