الوقفات التدبرية

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ...

﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ لقد قال المصدّقين والمصَدّقات بالإبدال ولم يقل (المتصدقين والمتصدقات) للدلالة على المبالغة في الصدقات. وقد بينا ذلك في كتابنا (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني) وذكرنا الفرق بين الإبدال وعدمه في نحو قوله (المتصدقين والمتصدقات) (1) فلا نعيد القول فيه. وقد عطف المصدّقات على المصدّقين ولم يكتف بجماعة الذكور ليدل على استقلال النساء في أموالهن فيتصرفن فيها ويتصدقن منها من دون أن يقسرهن أحد في أموالهن ويرغمهن على شيء لا يردنه وأنه ليس لأحد أن يمنعهن من التصدق لا أزواجهن ولا آباؤهن ولا غيرهم. وليبين أنه إذا كان لهن مال فلا تغني صدقة أزواجهن عنهن أو أحد من أقربائهن. وأنه يضاعف لهن الأجر كما يضاعف للرجال. ثم إنه ذكر المصدّقين والمصدّقات كما ذكر المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات في السورة كما سبق أن ذكرنا. وقد ذكر الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً بعد ذكر المصدّقين والمصدّقات وعطفهم عليهم إشارة إلى أن الصدقة غير القرض الحسن. وقد ذكر في القرض الحسن أقوال منها أنه أحسن أنواع الصدقة أو أن المراد بالتصدق التصدق الواجب وبالإقراض التطوع لأن تسميته بالقرض كالدلالة على ذلك (2). والذي يظهر والله أعلم صحة القول الأخير لأوجه منها: 1- أن القرآن قد يذكر القرض الحسن بعد الزكاة وقد يأمر به بعد الأمر بالزكاة، قال تعالى ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ - المائدة (12) وقال﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ﴾ - المزمل (20) والزكاة فرض مما يشير إلى أن القرض الحسن إنما هو من باب التطوع بعد الفريضة. ۲- تسميته قرضاً والمقرض ليس ملزماً بالإقراض وإنما هو مخير بخلاف المزكي فإنه ملزم بإخراجها وبخلاف المتصدق فإن من الصدقة ما يلزم. ٣- قال في أكثر من موطن ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ - البقرة (245)، الحديد (11) وهو كأنه من باب الترغيب في الإقراض والتخيير فيه وليس من قبيل الإلزام. أو أن القرض الحسن أعم من الصدقة فهو في الصدقات وغيرها من وجوه الإنفاق في أبواب الخير. ولذا عطف المقرضين على المتصدقين. وقد عطف بالفعل على الاسم فقال﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ ليدل على أن الصدقة لازمة ثابتة وأن التصدق وصفهم العام الثابت فهي متكررة على جهة الثبوت بخلاف الإقراض فإنه ليس ثابتاً ثبوت الصدقة ولذا لم ترد صفة الإقراض بالصيغة الاسمية في القرآن الكريم فلم يقل (المقرضين) كما قال ﴿المتصدقين﴾. وقد وصف القرض بأنه حسن وقد مر ذكر المقصود بالحسن في آية سابقة. ومن الطريف أن نذكر أن الله لم يذكر القرض إلا وصفه بالحسن فلم يرد مرة ذكر القرض دون وصفه بذاك بخلاف الصدقة. وأنه حيث ذكر القرض فإنه ذكر أنه إقراض لله ولم يطلقه مرة من دون تقييد. ولعله للتفريق بين الإقراض المالي في المعاملات وما يعطيه القرد لوجه الله. بخلاف الصدقات فإنها لا تكون إلا في العبادات. ثم ذكر المضاعفة والأجر الكريم كما ذكر في آية سابقة أعني قوله تعالى ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ . **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 270 إلى ص 273. (1) بلاغة الكلمة في التعبير القرآني 44 وما بعدها. (2) تفسير الرازي 29/232.

ﵟ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﵞ سورة الحديد - 18


Icon