الوقفات التدبرية

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ...

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ۖ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.) أي ليس ثمة صدّيق إلا هؤلاء فمن لم يؤمن بالله ورسله فليس بصديق، غير أن الصديقين درجات وأجورهم متفاوتة فالصديقية قد تكون وصفاً للنبي وغيره. فقد وصف الله قسماً من رسله بالصديقية. فقد وصف بها سيدنا إبراهيم (عليه السلام) فقال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ - مريم (41) ووصف بها إدريس (عليه السلام) فقال ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ مريم (56) ووصف بها غيرهم من المؤمنين فقد وصف بها مريم فقال ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ ﴾ - المائدة (75) وقد يعدهم صنفاً آخر بعد الأنبياء فيقول: (مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ ) - النساء (69). وذكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) من لا يزال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. فهي صفة مبالغة من الصدق أو التصديق. فالصديقون درجات كما أن الشهداء درجات وأن غيرهم من الصالحين درجات، فالذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وليس ثمة صديق غيرهم وأجورهم بقدر أعمالهم. ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سئل عن المؤمن يسرق ويزني؟ فأجاب: نعم. أي في حال من الأحوال ولا يخرجه ذلك عن دائرة الإيمان، وسئل عن المؤمن أيكذب؟ فقال: لا. إذن فالمؤمن يصدق دائماً فإن كذب خرج عن دائرة الإيمان. وعلى هذا فالمؤمن صديق ولا يكون إلا كذلك. ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ۖ﴾ وهذا على أحد معنيين: إما أن يكون للشهداء أجر الصديقين ونورهم باعتبار أن الشهداء من الصديقين لأنه ليس ثمة شهيد إلا ممن آمن بالله ورسله. وإما أن يكون للشهداء أجرهم ونورهم الخاص بهم كما نقول: لكم أجركم ولهم أجرهم على اعتبار أن الشهداء صنف آخر. فللصديقية اعتباران: اعتبار عام وهو من آمن بالله ورسله. واعتبار خاص وذلك أنهم من صفوة المؤمنين بالله ورسله فلا يناقض أحدهما الآخر. وقوله ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ۖ﴾ يمكن حمله على الاعتبارين: على اعتبار أنهم من الصديقين لأنهم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وعلى اعتبار أنهم صنف خاص لهم وصفهم الخاص من بين عموم المؤمنين. جاء في (الكشاف): (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ۖ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ۖ) يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله. ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾ أي مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم. فإن قلت: كيف يسوي بينهم في الأجر ولا بد من التفاوت؟ قلت: المعنى أن الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله حتى يساوي أجرهم مع أضعافه أجر أولئك. ويجوز أن يكون ﴿وَالشُّهَدَاءُ﴾ مبتدأ و لهم أجرهم خبره (1). وقد ذكر في الآية الشهداء بعد الصديقين كما في موطن آخر من القرآن الكريم وهو قوله (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) - النساء (69)، فقد جعل الصديقين صنفاً بعد الأنبياء وذكر بعدهم الشهداء وذكر بعدهم عموم الصالحين. وقال ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ فذكر أمرين الأجر والنور وقد تردد هذان الأمران في السورة في أكثر من موطن فقد ذكر بعد قوله ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ وقوله ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ . وذكر بعد قوله ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ قوله ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ۖ ﴾ وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ ذكر هؤلاء بمقابل ما مر في صدر الآية فذكر الذين كفروا بمقابل الذين آمنوا بالله وذكر الذين كذبوا بآياته سبحانه بمقابل الذين آمنوا برسله فإن الإيمان بالآيات يكون عن طريق الإيمان بالرسل. فذكر أن هؤلاء أصحاب الجحيم أي ملازموه لا يفارقونه. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 273 إلى ص 274. (1) الكشاف 4/ 65.

ﵟ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ۖ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﵞ سورة الحديد - 19


Icon