الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً...

برنامج لمسات بيانية ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ معنى النظر ههنا وقوع الشيء من غير ترقب له فلا يرونه إلا واقعاً، وقد فسره المفسرون بالانتظار ولما كان الكفار غير منتظرين للصيحة بل ينكرونها فسروها بالانتظار الفعلي، جاء في (التفسير الكبير): "﴿ما ينظرون إلا صيحة واحدة﴾ أي لا ينتظرون إلا الصيحة المعلومة .. فإن قيل: هم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها، فنقول: الانتظار فعلي لأنهم كانوا يفعلون ما يستحق به فاعله البوار وتعجيل العذاب وتقريب الساعة لولا حكم الله وقدرته وعلمه" (1) وجاء في (البحر المحيط): "ما ينظرون أي ما ينتظرون ولما كانت هذه الصيحة لابد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها" (2) والحق أن ثمة فرقاً بين ﴿ينظرون﴾ و﴿ينتظرون﴾ فمعنى ﴿ينظرون﴾ يرون الأمر واقعاً بغتة من غير ترقب له أو توقع، أما الانتظار فهو ترقب وقوع الأمر. وأكثر الاستعمال القرآني على هذا فهو يستعمل ﴿النظر﴾ لما يفاجئ من الأحداث والانتظار لما فيه ترقب وتوقع. قال تعالى ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ الزخرف 66 فذكر إنها تأتيهم بغتة أي من غير ترقب. وقال ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ﴾ محمد 18 وهي مثل ما قبلها. وقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) الأعراف 53 والكلام واضح أنه في اليوم الآخر وهو يأتيهم من غير ترقب له أو انتظار لأنهم كافرون به كما يدل على ذلك الكلام. في حين قال: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ﴾ الأحزاب 23 أي منهم من ينتظر ذلك ويترقبه. وقال: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ السجدة 30 فأمره بالانتظار وهو الترقب. وقال هود لقومه ﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴾ الأعراف 71 فهو قد توعدهم وتهددهم وأمرهم بانتظار ذلك وترقبه. ثم إن بناء كل من الفعلين يقوى ما ذكرناه فإن بناء ﴿انتظر﴾ أطول من ﴿نظر﴾ وذلك يدل على زيادة الانتظار وطوله إذ كثيراً ما يناسب اللفظ المعنى. ومعنى الآية – أي آية يس- أنهم لا ينظرون إلا صيحة واحدة تبغتهم وهم يختصمون في حياتهم ومعاشهم، والمقصود بالصيحة هذه صيحة القيامة. واختار ﴿ينظرون﴾ على ﴿ينتظرون﴾ لأن في ذلك فزعاً أكبر فإن الذي تفجؤه الصيحة يرجف فؤاده ويفزع أكثر ممن ينتظرها "لأن الصيحة المعتادة إذا وردت على غافل يرجف فإن المقبل على مهم إذا صاح به صائح يرجف فؤاده بخلاف المنتظر للصيحة، فإذا كان حال الصيحة ما ذكرناه من الشدة والقوة وترد على الغافل الذي هو مع خصمه مشغول يكون الارتجاف أتم والإيجاف أعظم" (3) وذكر الصيحة ههنا كما ذكرها في أصحاب القرية فإن كلاً من الصنفين لم يتق ما بين يديه وما خلفه فلم يرحمه ربه وأخذته الصيحة، غير أن هناك فرقاً بين البناء في الآيتين: فقد قال في أصحاب القرية ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ بالفعل الماضي لأن الصيحة قد وقعت. وقال ههنا ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ بالفعل المضارع لأنها لم تقع وقال في أصحاب القرية ﴿فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ . وقال ههنا ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ وذلك أنه لما قال إن الصيحة تأخذهم أي كأنها تأخذهم من أهلهم قال ﴿وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ لأن الصيحة أخذتهم بعيداً عن أهلهم ولم يقل مثل ذلك مع قوله ﴿فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ لأنها أخمدتهم جميعاً هم وأهلهم. وناسب ذلك أيضاً قوله ﴿وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ أي يختصمون في أمور الدنيا ومعنى ذلك أنهم ليسوا بين أهلهم ولا في مساكنهم فناسب أن يقول ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ . ومعنى ﴿يخصمون﴾ ﴿يختصمون﴾ غير أنه أبدل من التاء صاداً وضعفها وكسر الخاء لالتقاء الساكنين فصار يخصمون، وسبب هذا الإبدال والتضعيف – والله أعلم- إن التضعيف يدل على المبالغة فأبدل وضعف للدلالة على المبالغة في الاختصام، أي أن الساعة تأخذهم وهم منهمكون في الاختصام مبالغون في أمور الدنيا لا يشغلهم عن ذلك شاغل فتأخذهم الصيحة فلا يستطيعون توصية ولا ينطقون بشيء، جاء في (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني): "وأصل ﴿يخصمون﴾ يختصمون فأبدلت التاء صاداً وأدغمت في الصاد فصار ﴿يخصمون﴾، والتضعيف يفيد القوة والتكثير والمبالغة. فأفاد ههنا المبالغة في الاختصام، والمعنى أن الساعة تأخذهم وهم منهمكون في معاملاتهم منشغلون في خصومات الدنيا على أكثر ما يكون وأشد ما يكون غير منشغلين بشيء آخر عن الدنيا، فالساعة لا تقوم على رجل يقول: لا إله إلا الله. وفي الحديث (شرار الخلق الذي تدركهم الساعة وهم أحياء) فتصيح الساعة صيحة تقطع الاختصام فلا يكون نبس ولا حركة ولا خصومة ولا كلام بل صمت مطبق وسكون مطلق ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ ، فعبر عن ذلك بقوله ﴿يخصمون﴾، ولا يدل الأصل ﴿يختصمون﴾ على هذه المبالغة والقوة ... في حين قال (ثُمَّ إِنَّكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) الزمر 31 من غير إبدال، ذلك أن الاختصام أمام رب العالمين لا يكون مثل الاختصام في الدنيا، فاٌختصام في الدنيا عام يشمل المخاصمات التي تستدعى القضاء والفصل بين المتخاصمين كما يشمل غيرها مما لا يستدعى قضاء ولا فصلاً. أما الاختصام عند الرب فهو مما يستدعى القضاء والفصل، فبالغ في البناء فيما استعمله في الدنيا بخلاف ما استعمله في الآخرة والله أعلم" (4) واختيار الصيحة هو المناسب في هذا المقام إذ هي التي تقطع الاختصام والقيل والقال فبينما هم يختصمون في معاملاتهم وهم في صخب الدنيا إذ تأتيهم الصيحة فتقطع ذلك كله كما يكون في مكان ما ضجيج وصخب فتقطع ذلك بصيحة واحدة فإذا هو صمت مطبق وسكون رهيب. وذكر أن الصيحة واحدة ذلك لأنهم لا يحتاجون إلى آخري فإن الصيحة الواحدة تأخذهم جميعاً فلا حاجة إلى ثانية، ثم إنه إذا تتابعت الصيحات ألفها السامع فلا تكون لها تلك الرهبة، أما هذه فصيحة واحدة ليس لها نظير تخلع قلوبهم فيموتون جميعاً. أما الصيحة الثانية فلجمعهم عند رب العالمين

ﵟ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ﵞ سورة يس - 49


Icon