الوقفات التدبرية

(لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا...

﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ يعني إذا كان كل ما فاتكم مقدراً مدوناً قبل فوته فلم الأسى عليه؟ وإذا كان كل ما أصابكم من خير مقدراً مدوناً قبل وصوله إليكم فلم الاختيال والفرح المبطر. ولم الفخر بما قدره الله لك وأتاك إياه؟ وإذا كانت الدنيا كلها بما فيها من متاع وزينة وأموال زائلة وأن ذلك كله سيكون حطاماً وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور فلم الأسى على ما فات والفرح بما أوتيت وهو خارج من يدك لا محالة؟ وفي الإعلام بذلك توطين للنفس على قبول ما يحصل لها من ضر وعدم الاختيال والفخر على عباد الله بما آتاه الله من النعم. وإراحة لها من القلق والتسليم والرضا بقضاء الله وقدره. وفي ذلك الخير كل الخير للمؤمن. جاء في (الكشاف): ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ﴾ يعني أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي. لأن من علم أن بعض الخير واصل إليه وأن وصوله لا يفوته بحال لم يعظم فرحه عند نيله ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه اختال وافتخر به وتكبر على الناس... فإن قلت: فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح. قلت: المراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين والفرح المطغي الملهي عن الشكر . فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام. والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما (1). وقدم الأسى على الفرح لما تقدم من ذكر للمصيبة. وقد تقول: لقد قال تعالى في آل عمران ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۗ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ - (۱۰۳). وقال۔ ههنا ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ﴾ فقال في آل عمران ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا﴾ وقال ههنا ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا﴾ فما الفرق؟ فنقول: إن كلا الفعلين يفيد الحزن إلا أن في كلمة ﴿حزن﴾ شدة ومشقة أكبر. فالحزن في النفس قريب من معنى الحزن في الأرض كلاهما فيه شدة ومشقة. فـ ﴿الحزن﴾ بفتح الحاء وسكون الزاي هو الخشونة والغلظ في الأرض. و﴿الحزن﴾ بضم الحاء وسكون الزاي هو ما يشق على النفس ويغلظ عليها. ولما كان الحزن في النفس أشد على الشخص وأشق من الغلظ في الأرض جعلت العرب الضمة وهي أثقل من الفتحة للثقيل والفتحة لما هو أخف فناسبت بين الحركة والوصف. والحزن في آية آل عمران أشق واشد معاً في آية الحديد ذلك أن السياق في آل عمران هو فيما حصل للمسلمين في معركة أحد من غم وحزن وهزيمة فقال ﴿فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۗ﴾ فالحزن في أحد على أمرين: على ما فاتهم من الغنائم. وعلى ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجراح فقال ﴿لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۗ﴾ أما في آية الحديد فالحزن على ما فات من الخير فقط لأنه قال بعدها ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ﴾ أي بما آتاكم من الخير والنعم. فكان الحزن في آل عمران أشق وأشد فاستعمل الحزن الشديد الثقيل لما هو أثقل والذي هو أخف منه لما هو أخف. والله أعلم. جاء في (المفردات) للراغب: "الحُزن والحزُن خشونة في الأرض وخشونة في النفس لما يحصل فيه من الغم ويضاده الفرح، ولاعتبار الخشونة بالغم قيل: خشنت بصوره إذا حزنته (2). ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ﴾ أي بما آتاكم الله من الخير فأسند إيتاء الخير إليه سبحانه، ولم يقل ﴿بما أتاكم﴾ كما قال ﴿عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ﴾ فأسند الفوت إلى الشيء الفائت ولم يسنده إلى الله فلم يقل مثلاً (لكيلا تأسوا على ما فوته عليكم) أو (على ما أفاته عليكم) بل قال ﴿عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ﴾ . فأسند الخير إلى نفسه وفوته إلى غيره، وهو الخط التعبيري الواضح في القرآن الكريم فإنه يسند الخير والنعم إلى نفسه سبحانه بخلاف السوء (3) وهو نظير قوله تعالى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ۖ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا - الإسراء (۸۳) فإنه أسند النعمة إلى نفسه فقال : ﴿أَنْعَمْنَا﴾ بخلاف السوء فإنه أسنده إلى الشر فقال : ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ﴾ ولم يقل (مسسناه بالشر). ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ أي متباه بما عنده متكبر على الخلق كثير الفخر عليهم، وكلا الوصفين مختال وفخور يفيد المبالغة أحدهما في السلوك وهو الاختيال والآخر في القول وهو الفخر فذم الشيء من الصفات في القول والسلوك. وقد ذكرنا في تفسيرنا لسورة لقمان سبب توكيد ما جاء في لقمان بإن أعني قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ وعدم توكيده ههنا وذكرنا أموراً أخرى فلا نعيد القول فيه. وذكر هذين الوصفين بعد قوله ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ﴾ ، لأن النعم قد تؤدي إلى الاختيال والفخر. فالإنسان قد تبطره النعمة ويدعوه الفرح الزائد بها إلى الاختيال والفخر. وذكره ربه بأن الله هو الذي أتاه ذاك فلا ينبغي أن يختال ويفخر عليهم فإن الله الذي آتاه الخير لا يحب ذاك. وفي هذا تهديد للمختالين الفخر، جاء في (تفسير الرازي): ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ فدل بهذا على أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر. وأما الفرح بنعمة الله والشكر عليها فغير مذموم (4). **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 287 إلى ص 289. (1) الكشاف 4/66. (2) مفردات الراغب ﴿حزن﴾ 123. (3) أنظر معاني النحو 2/494 وما بعدها. (4) تفسير الرازي 29/240.

ﵟ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﵞ سورة الحديد - 23


Icon