الوقفات التدبرية

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا...

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾ خطاب للمؤمنين عامة من أهل الكتاب، وللمؤمنين بمحمد. فالمؤمنون بموسى وعيسى من أهل الكتاب يطلب منهم أن يتقوا الله ويؤمنوا بمحمد فإن أمارات صدقه ظاهرة وإن نعته موجود في كتبهم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فلا يمنعهم الكبر وحظ الدنيا أو الحسد أو غير ذلك من الإيمان به. والمؤمنون به من المسلمين عليهم أن يتقوا الله ويثبتوا على الإيمان برسوله. وهذا نظير قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ - النساء (136) أي اثبتوا على ذلك. ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ أي نصيبين، وذلك عام يشمل مؤمني أهل الكتاب والمسلمين. أما مؤمنو أهل الكتاب فقد ذكر ذلك لهم في قوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) - القصص (52 – 54). وأما المسلمون فقد ذكر ذلك ربنا فيهم في الآية التالية وهي قوله ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ فدل ذلك على أن ذلك من فضل الله عليهم. بل ذهب قسم من المفسرين إلى أن هذه الآية إنما هي في المسلمين يبين ذلك الحديث الذي أورده البخاري في صحيحه مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء يعملون له فعملت اليهود إلى نصف النهار. وعملت النصارى من الظهر إلى العصر على قيراط ثم عمل المسلمون من العصر إلى الغروب على قيراطين. قال فيه: واستكملوا أجر الفريقين كليهما أي استكملوا مثل أجر الفريقين أي أخذوا ضعف كل فريق (1). وجوز صاحب الكشاف أن يكون الخطاب لهما جميعاً وهو الذي نرجحه. جاء في (الكشاف): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يجوز أن يكون خطاباً للذين آمنوا من أهل الكتاب والذين آمنوا من غيرهم. فإن كان خطاباً لمؤمني أهل الكتاب فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد ﴿يُؤْتِكُمْ﴾ الله كفلين أي نصيبين ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ لإيمانكم بمحمد وإيمانكم بمن قبله ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ﴾ يوم القيامة ﴿نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ وهو النور المذكور في قوله ﴿يسعى نورهم﴾، ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ﴾ ما أسلفتم من الكفر والمعاصي، ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ﴾ ليعلم ﴿أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ الذين لم يسلموا، و(لا (مزيدة. ﴿أَلَّا يَقْدِرُونَ﴾ ﴿أن﴾ مخففة من الثقيلة أصله: أنه لا يقدرون ﴿عَلَىٰ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ﴾ أي لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا برسول الله فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ولم يكسبهم فضلاً قط. وإن كان خطاباً لغيرهم فالمعنى اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) ولا ينقصكم من مثل أجرهم لأنكم مثلهم في الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله (2). وقال ههنا ﴿كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ ولم يقل (كفلين من الأجر) أو (يؤتكم أجركم مرتين) كما قال في آية القصص التي ذكرناها وكما قال في نساء النبي ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾ - الأحزاب (۳۱) فذكر في آية الحديد الرحمة وذكر هنالك الأجر ذلك لأن الأصل في معنى الأجر أن يكون الجزاء على العمل (3). وفي هذه الآية أعني آية الحديد لم يذكر عملاً وإنما قال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾ ، فكان ذكر الكفلين من الرحمة أنسب بخلاف آية القصص فإنه ذكر عملاً فقد قال ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ وقال بعدها ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ - القصص (55). وكذلك في آية الأحزاب فإنه ذكر الأجر بمقابل العمل (مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ) فناسب ذكر الرحمة في آية الحديد كما ناسب ذكر الأجر في آيتي القصص والأحزاب والله اعلم. ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ ذكر صاحب الكشاف أن ذلك يوم القيامة والذي يظهر أن ذلك عام في الدنيا ويوم القيامة كما قال تعالى ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ - الأنعام (۱۲۲) وكما قال ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ﴾ - الحديد (9). وقد تقول: ولم لم يقل ههنا (ويجعل لكم نوراً تمشون به في الناس) كما قال في آية الأنعام؟ والجواب أن السياق مختلف فيهما فإن آية الحديد كما ذكرنا عامة في الدنيا ويوم القيامة بل استظهر بعض المفسرين أن ذلك في يوم القيامة، ويوم القيامة لا يكون المشي بالنور في الناس بل هو نور خاص بكل مؤمن لا يتعدى غيره. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه اكتنف آية الأنعام ذكر الناس ومعاملاتهم وافتراءاتهم وضلالهم وإضلالهم وما إلى ذلك. فهي في سياق الناس وأحوالهم فناسب ذكرهم في الآية بخلاف آية الحديد فإنها ليست في مثل هذا السياق وإنما نقدمها ذكر الرهبانية. والرأفة والرحمة فأطلق المشي سواء كان في معاملات الناس وأحوالهم أم في الاعتقاد. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ سبق ذكر المغفرة والرحمة في الآية وذلك في قوله ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ وقوله ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ﴾ فناسب قوله: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ . قد تقول: ولم قدم المغفرة على الرحمة فقال: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ مع أنه سبق ذكر الرحمة ذكر المغفرة في الآية فقال ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ ثم قال ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ﴾ ؟ فنقول: حيث اجتمع الاسمان الكريمان الغفور الرحيم في القرآن الكريم قدم اسمه الغفور إلا في موطن واحد وهو قوله في سورة سبأ ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾ - سبأ (۲). ومما قيل في سبب ذلك أن آية سبأ لا تختص بالإنسان وإنما هي عامة فقدم الرحمة لأنها عامة لا تختص بالإنسان فإن الرحمة قد تكون بالحيوان أيضاً أما المغفرة فهي خاصة بالإنسان فقدم الرحيم على الغفور. ومن الملاحظ أيضاً أنه في جميع المواطن التي ورد فيها هذان الاسمان الكريمان تقدم قبلهما ذكر للإنسان في صورة من الصور إلا آية سبأ فإنه لم يتقدمها ذكر للإنسان . قال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) فلم يذكر أمراً يتعلق بالإنسان. وقد ذكر بعد الآية أصناف الناس فقال ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ(3)﴾ فلما أخر ذكر الناس أخر ما يتعلق بهم وهو المغفرة. فقدم ما يتعلق بالمتقدم وأخر ما يتعلق بالمتأخر، والله أعلم. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 302 إلى ص 305. (1) ينظر التحرير والتنوير 27/427 – 428. البحر المحيط 10/116. روح المعاني 27/295 – 296. (2) الكشاف 4/68. (3) أنظر لسان العرب ﴿أجر﴾. القاموس المحيط ﴿أجر

ﵟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﵞ سورة الحديد - 28


Icon