الوقفات التدبرية

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ...

﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ أي إن إيتاء الكفلين من الرحمة والمغفرة وجعل النور إنما يكون بالإيمان بالرسول الخاتم محمد ولا يكون بغير ذلك وإن من لم يؤمن بمحمد فهو محروم ليس له شيء من ذلك ولا ينفعه إيمانه بمن قبله من الرسل حتى يؤمن بمحمد. وقد أخبرهم بذلك ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يستطيعون على شيء من فضل الله فيمنعونه من غيرهم أو يظنون أن فضل الله منحصر فيهم وإنما الفضل بيد الله سبحانه يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وقال ﴿عَلَىٰ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ ولم يقل (علی فضل الله) ليدل على أنهم لا يقدرون على أي شي: مهما قل. و﴿لا﴾ في قوله ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ﴾ مزيدة تفيد التوكيد أي ليعلم أهل الكتاب ذلك علماً مؤكداً ولا تستبد بهم ظنونهم وأهواؤهم. و﴿لا﴾ تزاد بعد ﴿أن﴾ للتوكيد إذا كان اللبس مأموناً والمعنى متضحاً. جاء في (تفسير الرازي): إن أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل كانوا يقولون: الوحي والرسالة فينا. والكتاب والشرع ليس إلا لنا. والله تعالى خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين. إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وعدهم بالأجر العظيم على ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآية. والغرض منها أن يزيل عن قلوبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم وغير حاصلة إلا في قومهم. فقال إنما بالغنا في هذا البيان وأطنبنا في الوعد والوعيد ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ولا اعتراض عليه في ذلك أصلاً (1). وجاء في (روح المعاني): أي ليعلم أهل الكتاب القائلون : ﴿المؤمنون﴾ بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم أنهم لا ينالون شيئاً من فضل الله من الأجرين وغيرهما ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد (صلى الله عليه وسلم) وحاصله الإعلام بأن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئاً ما لم يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فقولهم: (من لم يؤمن بكتابكم فله أجر) باطل. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) - القصص (54). فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: لنا أجران ولكم أجر. فاشتد ذلك على أصحابه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ...... إلخ. فجعل لهم سبحانه أجرين مثل ما لمؤمني أهل الكتاب. وقال الثعلبي: فجعل لهم أجرين وزادهم النور ثم قال سبحانه ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ﴾ ........ إلخ. وحاصله على هذا ليعلموا أنهم ليسوا ملاك فضله عز وجل فيزووه عن المؤمنين ويستبدوا به دونهم (2). قد تقول: لقد قال في مكان آخر ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ - آل عمران (174). بالتنكير وقال ههنا ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ بالتعريف. فما السبب؟ فنقول: إن السياق مختلف في كل منهما. فقد قال في آل عمران (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) - آل عمران (173-174). فهي في نجاة المؤمنين في معركة أحد وأنهم لم يمسسهم سوء بعدها . أما سياق آية الحديد فهي في المغفرة والرحمة والنور فكان الفضل أعظم. فناسب كل تعبير السياق الذي ورد فيه. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 305 إلى ص 307. (1) تفسير الرازي 29/248 – 249. (2) روح المعاني 27/296 – 297.

ﵟ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﵞ سورة الحديد - 29


Icon