الوقفات التدبرية

(فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ...

﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ قال إنهم لا يستطيعون التوصية ولم يقل (فلا يوصون) لأن نفي الاستطاعة أبلغ، فأنت تقول (هو لا يوصي) أي لا يفعل ذلك مع استطاعته عليها، فنفي التوصية لا ينفي الاستطاعة، ونفي الاستطاعة ينفي التوصية، فقولك (هو لا يستطيع التوصية) أي لا يقدر عليها مع إرادته ذلك. وذكر التوصية لأنه أراد العموم فهم لا يستطيعون أن يوصوا آية توصية مهما كانت ولو قال (لا يستطيعون التوصية) لاحتمل أنهم لا يستطيعون التوصية المطلوبة أو الكاملة أو المعهودة فتنكيرها أفاد العموم. ﴿وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ إن الإنسان يتمنى أن يموت بين أهله وهؤلاء لا يستطيعون أن يبلغوا أهلهم بشيء ولا أن يعودوا إليهم فحرموا من الأمنيتين العزيزتين كلتيهما. ثم إنه قدم الفعل ﴿يستطيعون﴾ على المفعول به (التوصية) وأخر الفعل ﴿يرجعون﴾عن الجار والمجرور ولم يجعلهما على نسق واحد، فلم يقل (فلا يستطيعون توصية ولا يرجعون إلى أهلهم). ولم يقل (فلا توصية يستطيعون ولا إلى أهلهم يرجعون) ذلك أن ما قاله ربنا أعدل الكلام في هذا المقام. فإنه لو قال (فلا توصية يستطيعون) فقدم المفعول على الفعل لكان نفي الاستطاعة خاصاً بالتوصية وقد يستطيعون غيرها كما تقول (ما شعراً قلت) أي قلت غيره فإنك نفيت الشعر وأثبت غيره، ونحوه أن تقول (ما زيداً أكرمت) أي أكرمت غيره. أما هنا فنفي التوصية ولم يثبت غيرها فكان النفي أعم وأشمل. وقوله ﴿وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ نفي الرجوع إلى الأهل وأثبت الرجوع إلى غيرهم وهو الله أي لا يرجعون إليهم بل إلينا، ولو قال (ولا يرجعون إلى أهلهم) لنفي الرجوع إلى أهلهم ولم يثبت الرجوع إليه وهو غير مراد، ولكنه أراد إثبات الرجوع إليه سبحانه. وهذا التقديم نظير التقديم في قوله تعالى في السورة ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ ونظير التقديم في آخر السورة ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ . هذا إضافة إلى ما تقتضيه خواتم الآي من هذا التقديم والتأخير. جاء في (التفسير الكبير) في هذه الآية "فيه أمور مبينة للشدة، (أحدها) عدم الاستطاعة فإن قول القائل: فلان في هذه الحال لا يوصي دون قوله: لا يستطيع التوصية، لأن من لا يوصي قد يستطيعها. (الثاني) التوصية وهي بالقول والقول يوجد أسرع مما يوجد الفعل، فقال لا يستطيعون كلمة، فكيف فعلا يحتاج إلى زمان طويل من أداء الواجبات ورد المظالم؟ ﴿الثالث﴾ اختيار التوصية من بين سائر الكلمات يدل على إنه لا قدرة له على أهم الكلمات فإن وقت الموت الحاجة إلى التوصية أمس. (الرابع) التنكير في التوصية للتعميم أي لا يقدر على توصية ما ولو كانت بكلمة يسيرة، ولأن التوصية قد تحصل بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها. (الخامس) قوله ﴿ولا إلى أهلهم يرجعون﴾ بيان لشدة الحاجة إلى التوصية لأن من يرجو الوصول إلى أهله قد يمسك عن الوصية لعدم الحاجة إليها. وأما من يقطع بأنه لا وصول له إلى أهله فلابد له من التوصية، فإذا لم يستطع مع الحاجة دل على غاية الشدة. وفي قوله ﴿وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ وجهان: أحدهما: ما ذكرنا أنهم يقطعون بأنهم لا يمهلون إلى أن يجتمعوا بأهاليهم وذلك يوجب الحاجة إلى التوصية. وثانيهما: أنهم إلى أهله لا يرجعون، يعنى أنهم يموتون ولا رجوع إلى الدنيا، ومن يسافر سفراُ ويعلم أنه لا رجوع له من ذلك السفر ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى يأتي بالوصية" (1) وجاء في (روح المعاني): "﴿وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ إذا كانوا خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ويرجعون إلى الله عز وجل لا إلى غيره سبحانه " (2). إن هذه الصيحة تأخذ الجميع من كان في بيته وبين أهله ومن كان خارج بيته وليس بين أهله فذكر الحالة الأشد وهي من كان بعيداً عن أهله وبيته، وناسب ذلك قوله ﴿وهم يخصمون﴾ أي يختصمون في معاملاتهم وأموالهم. وهذا يشير إلى أنهم ليسوا مع أهلهم ولا في بيوتهم بل هم منشغلون بأمور الدنيا وصخبها فناسب ذلك ما ذكر. ثم إنه بدأ بالأقرب وهو التوصية فهذا أقرب إلى الشخص وذلك أن يوصى من حوله ثم الأبعد وهو الرجوع إلى الأهل.

ﵟ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﵞ سورة يس - 50


Icon