الوقفات التدبرية

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى...

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قوله وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) يعنى النفخة الثانية التي تبعث الموتى من قبورهم، أما النفخة الأولى فقد عبر عنها بالصيحة في قوله ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ﴾ ، والنفخة في الصور صيحة غير أنه عبر عنها بالنفخة مرة وبالصيحة مرة. وقد عبر عن الأمرين في سورة الزمر بالنفخة فقال ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ الزمر 68. وقد ذكرنا أنه عبر عن ذلك في يس بالصيحة لأنهم في حال اختصام وصخب فذكر الصيحة التي تقطع الصخب والضجيج، وليس نحو ذلك في الزمر. فذكر أنه نفخ في الصور النفخة الثانية فإذا هم يخرجون من أجداثهم يسرعون إلى ربهم، ومعنى ﴿ينسلون﴾ يسرعون. وقد تقول: ولكنه قال في الزمر ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ أليس في ذلك اختلاف؟ فنقول: ليس ثمة اختلاف وإنما هو تصوير مشهد يقتضيه السياق وإيضاح ذلك: 1- أن قوله ﴿قيام﴾ لا يناقض المشي، فالماشي قد يكون قائماً وقد يكون غير قائم كما قال تعالى ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ – الملك 22 وقال ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ – النور 45. 2- وحتى لو كانت الحالتان تختلف أحداهما عن الأخرى فقد ذكر إحدى الحالتين في موطن والأخرى في موطن آخر كما تقول (درسته تلميذاً صغيراً فإذا هو طالب في الكلية) و(درسته تلميذاً صغيراً فإذا هو أستاذ في الجامعة) و(درسته تلميذاً صغيراً فإذا هو وزير للتربية) ولا ينافي أحدهما الآخر. 3- أن قوله ﴿من الأجداث﴾ يشير إلى مكان بدء الانطلاق فلا ينافي ذلك أن يكون قبل الانطلاق واقفاً أو جالساً، كما تقول (انطلق المتسابقون من المدرسة إلى المستشفى) فأنت ذكرت بدء الانطلاق ولم تذكر ما قبله ولا يناقض ذلك أي وضع كانوا عليه. جاء في (التفسير الكبير) في قوله ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ : "أي نفخ فيه مرة أخرى كما قال تعالي ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ وفيه مسائل: (المسألة الأولى) قال تعالى في موضع آخر ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ وقال ههنا ﴿فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ والقيام غير النسلان، وقوله في الموضعين ﴿فإذا هم﴾ يقتضي أن يكونا معاً، نقول: الجواب عنه من وجهين: ﴿أحدهما﴾ أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم، ولا ينافي النظر. (وثانيهما) أن السرعة مجيء الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل: مكر مفر مقبل مدبر معاَ كجلمود صخر حطه السيل من عل" (1) وجاء في (روح المعاني): "ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ لجواز اجتماع القيام والنظر والمشي أو لتقارب زمان القيام ناظرين وزمان الإسراع في المشي" (2) أما اختيار كل تعبير فذلك لمناسبة السياق الذي ورد فيه. فقد قال في الزمر ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ذلك أنه ذكر الصعقة في النفخة الأولى فقال ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ والصعقة تعنى الغشية وتعنى الموت فذكر في النفخة الثانية ما ينافي الغشية والموت فقال ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ . وقال في ﴿يس﴾ إنهم إلى ربهم ينسلون ذلك لأنهم كانوا في النفخة الأولي ينسلون إلى الدنيا ويختصمون فيها وهم مجتمعون لشؤونها فقد قال ﴿تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ والاختصام لا يكون إلا مع الاجتماع، فذكر في النفخة الثانية أنهم ينسلون إلى ربهم ويجتمعون للخصومة عنده، فناسب كل تعبير مكانه. لقد قال ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ فعبر عن الحدث المستقبل بالفعل الماضي للدلالة على أنه محقق الوقوع بمنزلة ما مضي من الأحداث. ثم قال ﴿فإذا﴾ فجاء بالفاء مع ﴿إذا﴾ الفجائية ذلك أن الفاء تدل على الترتيب والتعقيب أي يخرجون فجأة من دون تراخ أو مهلة من الوقت ففي عقب النفخة مباشرة من دون تلبث يخرجون من الأجداث ينسلون إلى ربهم، ولم يأت بثم مع إذا الفجائية كما في قوله تعالي ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ﴾ –الروم 20 ذلك لأن ﴿ثم﴾ تفيد التراخي في الزمن، فبين أنه في عقب النفخة مباشرة يخرج الموتى من مراقدهم. وقال مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ فقدم ﴿من الأجداث﴾ وهو مبدأ النسلان، ثم ذكر بعده ﴿إلى ربهم﴾ وهو انتهاء الغاية، فقدم بدء الغاية وذكر النهاية بعده وهو التعبير الطبيعي وهو كما تقول (انطلق من المكان الفلاني إلى السوق). وقدم الجارين والمجرورين على الفعل للاهتمام والقصر فإنه أعجب شيء أن يخرج الميت من قبره مسرعاً إلى غاية مرسومة له، فكيف تخرج هذه العظام النخرة والتراب المختلط مما هب ودب مسرعة تعدو إلى غايتها. وقد ذكر أن إسراعهم إنما هو إلى ربهم الذي هو مالك أمرهم وسيدهم لا إلى جهة أخرى فهم ينسلون إلى ربهم حصراً. واختيار لفظ ﴿الرب﴾ أنسب شيء ههنا ذلك أن الخارجين من الأجداث قسمان: قسم أطاع ربه وسيده فهو ذاهب إلى ربه الذي أطاعه وهو الأرحم به ذلك أنه هو الذي أنعم عليه في الدنيا وغذاه بالنعم فهو أرحم به الآن وأكرم وهو يلتجئ إليه كما يلتجئ العبد إلى سيده والضعيف إلى متولي أمره. وقسم عصى ربه الذي غذاه بالنعم وأساء إلى من أحسن إليه فهو يعاد إلى ربه الذي أحسن إليه وقابله بالإساءة، وشر الإساءة أن تسئ إلى من أحسن إليك، فهي شر إعادة وأسوأ رجعة، فكان ذكر الرب أنسب شيء ههنا. جاء في (التفسير الكبير): "الموضع موضع ذكر الهيبة وتقدم ذكر الكافر ولفظ الرب يدل على الرحمة فلو قال بدل الرب المضاف إليهم لفظاً دالاً على الهيبة هل يكون أليق أم لا؟ قلنا: هذا اللفظ أحسن ما يكون لأن من أساء واضطر إلى التوجه إلى من أحسن إليه يكون ذلك أشد ألماً وأكثر ندماً من غيره" (3) وجاء في (روح المعاني): " وذكر الرب للإشارة إلى إسراعهم بعد الإساءة إلى من أحسن إليهم حين اضطروا إليه" (4) وهذا الإسراع إلى ربهم لا اختيار لهم فيه وإنما هم أحضروا إليه إحضاراً يدل على ذلك قوله تعالى ﴿فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ ، جاء في (التفسير الكبير): "وقوله (محضرون دل على أن كونهم ينسلون) إجباري لا اختياري" (5). ثم لننظر من ناحية أخرى أنه ذكر في هذه الآية جهة الرجوع التي لم يذكرها في الآية السابقة، فقد قال في الآية السابقة ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ وقد ذكرنا أن قوله ﴿وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ يعنى أنهم يرجعون إلى غير أهلهم، وهنا عين الجهة التي يرجعون إليها فقال ﴿إلى ربهم ينسلون﴾ أي يرجعون إلى ربهم حصراً. ومن هنا يتبين أن هذه الآية ارتبطت بالآية السابقة من جهتين: الجهة الأولى أن قوله في الآية السابقة ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ لا يدل على أن تلك الصيحة أماتتهم تصريحاً ذلك أنه قد يحال بين الحي والتوصية وبينه وبين الرجوع إلى أهله، فلا يستطيع توصية ولا يرجع إلى أهله وذلك حال كثير من المساجين، فلما قال ﴿من الأجداث﴾ علم من هذه الآية أنهم ماتوا. والجهة الأخرى أنه ذكر جهة الرجوع فإنه لما قال ﴿ولا إلى أهلهم يرجعون﴾ ذكر في هذه الآية أنهم إلى ربهم ينسلون، فكان في هذه الآية توضيح ما حدث لهم وتعيين جهة الرجوع فقوله ﴿من الأجداث﴾ مقابل قوله ﴿وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ وتقديم الجار والمجرور في قوله ﴿إلى ربهم ينسلون﴾ نظير التقديم في قوله ﴿ولا إلى أهلهم يرجعون﴾. ان هذه الآية نظير قوله تعالى ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ ، فإنها بينت الآية قبلها وهي قوله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ ففي كلتا الآيتين أعنى قوله ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ وقوله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ لم يصرح بما حصل وإنما أشار إلى ذلك في الآية بعدها. قال تعالى في سورة يس: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ٥١﴾ [يس: 51]. سؤال: لماذا قال ﴿مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ﴾ ولم يقل (من القبور)؟ الجواب: الأجداث هي القبور إلا إنه – والله أعلم – كان لاختيار الأجداث ههنا وفي موطنين آخرين سبب، ذلك أن الأجداث جمع جَدَث وهو القبر، ولفظة (الجدَث) قريبة في اللفظ والاشتقاق من لفظ (جَدَثة) وليس بينهما إلا زيادة الهاء في الآخر. والجَدَثة صوت الحافر والخف ومضغ اللحم. وصوت خروج الموتى من الأجداث مُسرعين شبيه بصوت الحافر والخف عند السير والعَدْو، وقد خصّ استعمال الأجداث بحالة الخروج من القبور مُسرعين إلى المحشر. قال تعالى: ﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ٧﴾ [القمر: 7]، وقال: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ٤٣﴾ [المعارج: 43]، ولم يستعملها في حالة السكون بخلاف لفظة: ﴿القبور﴾ فإنه استعملها في حال السكون والهمود، كقوله تعالى: ﴿قَدۡ يَئِسُواْ مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِ كَمَا يَئِسَ ٱلۡكُفَّارُ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡقُبُورِ١٣﴾ (الممتحنة :13)، وقوله: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ٢٢﴾ (فاطر: 22). واستعملها في حال بعثرتها وبعثرة ما فيها فقال: ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ٤﴾ [الانفطار: 4]، وقال: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ٩﴾ [العاديات: 9]. ومع ذلك فإن هناك فرقاً بين الحالتين، فقوله: ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾ لا يدل إلا على بعثرة القبور، كما تقول: (بُعثرت الصناديق)، و (بعثرت الحاجات)، ولا يدل على السير والحركة، وإن كان المقصود من بعثرة القبور ذلك. وكذلك قوله: ﴿إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾ فإنه يدل على بعثرة ما فيها كما تُبعثر الأشياء من مكانها، ولا يدل ذلك من حيث اللفظ إلا على البعثرة، ولا يدلُّ على السَّيْر والحركة، بخلاف ما ورد في استعمال الأجداث؛ فإنها كلها تدل على حركة الخارجين منها والإسراع في السير، فقوله: ﴿وفَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ معناه: يسرعون. وكذلك قوله: ﴿يَخۡرُجُونَ مِنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ سِرَاعٗا كَأَنَّهُمۡ إِلَىٰ نُصُبٖ يُوفِضُونَ﴾، وقوله: ﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ٧ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ٨﴾ [القمر: 7-8] أي: مُسرعين. فإنها كلها تدل على الإسراع في السير، وذلك نظير صوت الحافر والخف عند السير. وفيها دلالة جمالية أخرى: ذلك أن المعنى (الجدثة) كما ذكرنا مضغ اللحم، فكأن المعنى يخرجون بعدما أكلتهم الأرض ومضغت لحومهم وليس في لفظ القبور مثل ذلك المعنى، والله أعلم.

ﵟ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ﵞ سورة يس - 51


Icon