الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ...

برنامج لمسات بيانية ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا﴾ قال ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا ﴾ ولم يقل (يقولون يا ويلنا) ذلك أنه لو قال ﴿يقولون﴾ لكان الفعل حالاً للنسلان أي (ينسلون قائلين يا ويلنا) كما نقول (هو يقبل يبكي) و(يدبر يسرع) فيكون القول عند النسلان في حين أن القول قبل النسلان فإنما قالوا ذلك في ابتداء بعثهم من القبور (1)، جاء في (التفسير الكبير): "لو قال قائل: لو قال الله تعالى (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون يقولون يا ويلنا) كان أليق. نقول معاذ الله، وذلك لأن قوله ﴿فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون﴾ على ما ذكرنا إشارة إلى أنه تعالى في أسرع زمان يجمع أجزاء ويؤلفها ويحييها ويحركها ... فلو قال ﴿يقولون﴾ لكان ذلك مثل الحال لينسلون أي ينسلون قائلين يا ويلنا وليس كذلك فإن قولهم ﴿يا ويلنا﴾ قبل أن ينسلوا" (2) ﴿يَا وَيْلَنَا﴾ الويل هو الحزن والعذاب والهلاك ومعنى ﴿يا ويلنا﴾ أنهم ينادون هلاكهم وعذابهم أي احضر يا عذابنا ويا هلاكنا فهذا أوانك كما يقول الناس (يا مصيبتي) و(يا خراب بيتي) أي احضر فهذا وقتك وأوانك قال تعالى في أصحاب النار(وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ) الفرقان 13، 14 أي قالوا: يا ويلاه، يا ثبوراه. جاء في (لسان العرب): "الويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب وكل من وقع في هلكة بالويل ومعنى النداء فيه يا حزني ويا هلاكي ويا عذابي احضر فهذا وقتك وأوانك فكأنه نادى الويل أن يحضره لما عرض له من الأمر الفظيع" (3). وقد تقول: ولم قال ﴿يا ويلنا﴾ ولم يقل ﴿يا ويلتنا﴾ بالتاء ؟ والجواب أن الويل هو ما ذكرناه أي العذاب والحزن أما الويلة فهي الفضيحة ويؤتى بها في مواطن الفضيحة وذلك نحو قوله تعالى ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ﴾ الكهف 49. فقالوا ﴿يا ويلتنا﴾ أي يا للفضيحة وهي فضيحة نشر الأعمال، فإن قسماً من الأعمال كان يتستر منها فاعلها فهو يفعلها في السر فإذا بالكتاب قد فضحها كلها. ولو تتبعنا مواطن استعمال الويلة بالتاء في القرآن الكريم لوجدناها كلها في مواطن الفضيحة بخلاف مواطن الويل. قال تعالى ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ هود 72 فقالت ﴿يا ويلتى﴾ ذلك أن العجوز المسنة التي تلد وبعلها شيخ تشعر بأن ولادتها في مثل هذا السن فضيحة تخجل منها ولذا قال تعالى في موطن آخر ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾ الذاريات 29. وقال في ابن آدم الذي قتل أخاه ولم يعلم ماذا يفعل به ولا كيف يتخلص من الجثة وقد أعيته الحيلة (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) –المائدة31. وه و موطن عجز فاضح إذ كان أقل تفكيراً وحيلة من الغراب. وقال (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ) – الفرقان 27-29 وهذا موطن افتضاح في ضعف الشخصية وعجزها فإن صاحبه استطاع أن يخدعه ويضله ويلغي تفكيره ويعبث بعقله وذلك دليل نقص وعجز. ولم يرد الويل في مثل هذه المواطن. قال تعالى: (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ) لأنبياء 12 -15 وقال: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ – الأنبياء 46 وقال: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ – الأنبياء97 وقال: ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ﴾ – يس 52 وقال: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ) – الصافات 19،20 وقال: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ) –القلم 30،31 جاء في (لسان العرب): "الويل حلول الشر والويلة الفضيحة والبلية، وقيل هو تفجع وإذا قال القائل واويلتاه فإنما يعني وافضيحتاه، وكذلك تفسير قوله تعالى ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ" ﴾ و(المرقد) يحتمل المكان ويحتمل المصدر أي الرقاد، وهو بهذا المعنى أي بمعنى الرقاد تكون ضجعة القبر كالنوم بالنسبة إلى اليقظة فيكون البعث يقظة والرقاد في القبر كالنوم. وقال ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ ولم يقل (من بعثنا من أجداثنا) ليشمل المعنيين: المكان والمصدر، فهم قد بعثوا من الأجداث وبعثوا من رقدة الموت، جاء في (الكشاف): "عن مجاهد للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قالوا من بعثنا" (5) وجاء في (البحر المحيط): "المرقد استعارة عن مضجع الميت، واحتمل أن يكون مصدراً أي من رقادنا وهو أجود أو يكون مكاناً فيكون المفرد فيه يراد به الجمع أي من مراقدنا، وما روي عن أبي بن كعب ومجاهد وقتادة من أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر فقالوا هو غير صحيح الإسناد وقيل قالوا من مرقدنا لأن عذاب القبر كان كالرقاد في جنب ما صاروا إليه من عذاب جهنم" (6).

ﵟ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﵞ سورة يس - 52


Icon