الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً...

برنامج لمسات بيانية ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ أي ما كانت النفخة المذكورة في قوله تعالى ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ إلا صيحة واحدة (1) فإذا هم مجموعون محضرون لدى رب العزة. وجاء بالفاء وإذا للدلالة على مفاجأة الجمع والإحضار بعد الموت والبلي وسرعته، فإذن ﴿إذا﴾ نفيد المفاجأة والفاء تدل على الحدوث بلا تراخ واجتماعهما يدل على المفاجأة والسرعة. ومعنى ﴿جميع﴾ مجموعون أي فإذا هم مجموعون. وقد تقول: ولم قال ﴿جميع﴾ ولم يقل (مجموعون) كما قال في مكان آخر من القرآن الكريم؟ فقد قال في سورة الواقعة (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) الواقعة 49،50 وقال ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ هود 103 والجواب أن ﴿جميع﴾ تأتي بمعنيين – كما ذكرنا في آية سابقة – إما أن تكون بمعنى مفعول أي مجموعون وإما أن تكون بمعنى مجتمعين وذلك نحو قوله تعالى ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ﴾ القمر 44 وقوله ﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ﴾ الشعراء 56 أي مجتمعون. فجاء بــ﴿محضرون﴾ ليدل على أنهم مجموعون لا مجتمعون أي لم يجتمعوا باختيارهم، وأما (مجموعون) فهو يدل تنصيصاً على اسم المفعول أي جمعوا جمعاً ولذا لم يحتج إلى نحو ﴿محضرون﴾. هذا من ناحية، ومن ناحية آخري أن ﴿جميع﴾ على زنة (فعيل) وهي بمعنى ﴿مفعول﴾ كما اتضح وهذه الصيغة لا تقال إلا لما وقع فعلاً (2) ولا تقال لما سيقع، أما صيغة ﴿مفعول﴾ فتقال لما وقع ولما لم يقع، فأنت لا تقول (قتيل) إلا لمن قتل، ولا تقول (طريد) إلا لمن طرد، أما مقتول ومطرود فيقال لمن قتل ولمن سيقتل أي أن صيغة ﴿مفعول﴾ تحتمل الحال والاستقبال بخلاف فعيل. وفي آية يس تحدث عن أحداث القيامة بصيغة ما وقع فجاء بالصيغة التي تدل على الوقوع. أما آيتا الواقعة وهود فإنهما في سياق المستقبل فجاء بهما على مفعول، قال تعالى في الواقعة ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ﴾ فقد أمر الرسول أن يبلغهم بقوله ﴿قل﴾ وهذا يدل على أن الكلام في الدنيا وسياق الآيات واضح في ذلك. وقال في هود (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) هود 103-105 فقوله ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ﴾ يدل على أنهم في الدنيا، وكذلك قوله ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ﴾ وقوله (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فكل ذلك يدل على أن الكلام على المستقبل. فاتضح الفرق. ويدل ﴿لدينا﴾ على الحضور والقرب، وهو أخص من ﴿عندنا﴾ فإن ﴿عند﴾ قد تكون للحاضر والغائب فأنت تقول (عندي مال) وإن كان غائباً ولا تقول ﴿لدي﴾ إلا إذا كان حاضراً قريباً (3) وتقديم ﴿لدينا﴾ يدل على القصر أي محضرون لدينا لا لدى غيرنا كما مربيان ذلك. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص192 إلى ص193 1- ينظر التفسير الكبير 26/90، فتح القدير 4/363 2- كتاب سيبويه 2/213، أدب الكاتب 228، المخصص 16/156 3- ينظر الهمع 1/202، شرح ابن يعيش 4/100، شرح الرضى على الكافية 2/128   ﴿فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فاليوم أي يوم القيامة الذي يحضر فيه الجميع للحساب لا تظلم نفس شيئاُ، ذكر النفس ليشمل كل نفس برة كانت أو فاجرة (1) فالتنكير أفاد العموم، ونفي الظلم على الإطلاق فليس في ذلك اليوم من ظلم كما قال تعالي ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾ غافر 17. و﴿شيئاً﴾ يحتمل معنيين: يحتمل المصدرية أي لا تظلمون شيئاً من الظلم وإن قل. ويحتمل المفعول به أي لا تظلمون شيئاً من الأشياء(2) وهذا المعنيان مرادان معاً فلا تظلم نفس شيئاً من الظلم ولا شيئاً من الأشياء ولذا أطلق كلمة ﴿شيء﴾ ولم يقيدها.

ﵟ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﵞ سورة يس - 53


Icon