الوقفات التدبرية

(وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بعدما نفى...

﴿وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بعدما نفى الظلم عن الجميع التفت إلى المخاطبين فقال ﴿وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ . وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله ﴿وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ خطاب للكافرين ذلك أن المؤمن يجزى أضعاف ما كان يعمل أما الكافر فلا يجزى إلا ما كان يعمل. وقيل بل إن الخطاب عام لأن المقصود به الجنس بمعنى أن الجزاء من جنس العمل إن خيراً فخير وإن شراً فشر فلا يجزى العمل السيئ بالجزاء الحسن ولا العمل الحسن بالسيئ. جاء في (التفسير الكبير): "فقوله ﴿لا تظلم نفس﴾ ليأمن المؤمن ﴿ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون﴾ لييأس المجرم الكافر. وفيه مسائل: (المسألة الأولى): ما الفائدة في الخطاب عند الإشارة إلى يأس المجرم بقوله ﴿ولا تجزون﴾ وترك الخطاب في الإشارة إلى أمان المؤمن من العذاب بقوله ﴿لا تظلم﴾ ولم (ولا تظلمون أيها المؤمنون) ؟ نقول: لأن قوله ﴿لا تظلم نفس شيئاً﴾ يفيد العموم وهو كذلك فإنها لا تظلم أبداً. ﴿ولا تجزون﴾ مختص بالكافر فإن الله يجزي المؤمن وإن لم يفعل فإن لله فضلاً مختصاً بالمؤمن وعدلاً عاماً، وفيه بشارة. (المسألة الثانية): ما المقتضى لذكر فاء التعقيب؟ نقول لما قال ﴿محضرون﴾ مجموعون والجمع للفصل والحساب، فكأنه تعالى قال إذا جمعوا لم يجمعوا إلا للفصل بالعدل فلا ظلم عند الجميع للعدل، فصار عدم الظلم مترتباً على الإحضار للعدل، ولهذا يقول القائل للوالي أو للقاضي، جلست للعدل فلا تظلم أي ذلك يقتضي هذا ويستعقبه. (المسألة الثالثة): لا يجزون عين ما كانوا يعملون، بل يجزون بما كانوا يعملون أو على ما كانوا، وقوله ﴿ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون﴾ يدل على أن الجزاء بعين العمل، لا يقال: ﴿جزى﴾ يتعدى بنفسه وبالباء، يقال: جزيته خيراً وجزئيته بخير لأن ذلك ليس من هذا لأنك إذا قلت (جزيته بخير) لا يكون الخير مفعولك بل تكون الباء للمقابلة والسببية كأنك تقول: جزيته جزاء بسبب ما فعل. فنقول: الجواب عنه من وجهين: ﴿أحدهما﴾ أن يكون ذلك إشارة على وجه المبالغة إلى عدم الزيادة وذلك لأن الشيء لا يزيد على عينه. فنقول قوله تعالى (يجزون بما كانوا يعملون) في المساواة كأنه عين ما عملوا، يقال: فلان يجاوبني حرفاً بحرف أي لا يترك شيئاً وهذا يوجب اليأس العظيم. (الثاني) هو أن ﴿ما﴾ غير راجع إلى الخصوص وإنما هي للجنس تقديره: ولا تجزون إلا جنس العمل أي إن كان حسنة فحسنة وإن كان سيئة فسيئة فتجزون ما تعملون من السيئة والحسنة، وهذا كقوله وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا " (1) وجاء في (روح المعاني): واستظهر أبو حيان أن الخطاب يعم المؤمنين بأن يكون الكلام إخباراً من الله تعالى عما لأهل المحشر على العموم كما يشير إليه تنكير ﴿نفس﴾ واختاره السكاكي. وقيل عليه يأبه الحصر لأنه تعالى يوفي المؤمنين أجورهم ويزيدهم من فضله أضعافاً مضاعفة، ورد بأن المعنى أن الصالح لا ينقص ثوابه والطالح لا يزاد عقابه لأن الحكمة تأبى ما هو على صورة الظلم، أما زيادة الثواب ونقص العقاب فليس كذلك. أو المراد بقوله تعالى ﴿وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر" (2) والتحقيق في الأمر أنه يعبر عن نحو ذلك بتعبيرين ﴿ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون﴾ (ولا تجزون إلا بما كنتم تعملون) وكل له معنى. فالتعبير الأول يحتمل معنيين: المعنى الأول: هو أنكم تجزون بمقدار ما كنتم تعملون أي لا يزيد الجزاء عن العمل ولا ينقص. والمعنى الآخر: هو أنكم تجزون من جنس عملكم إن كان عملكم خيراً فالجزاء خير وأن كان شراً فالجزاء شر كقوله (صلى الله عليه وسلم) (الناس مجزيون بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر). وأما التعبير الثاني وهو قولنا(ولا تجزون إلا بما كنتم تعملون) فالباء فيه تفيد السبب ولا يقتضي أن يكون الجزاء بمقدار العمل بل ربما زاد عليه، ففي قولك (عاقبتك بفعلتك) قد تكون العقوبة شديدة وهي أكبر مما تقتضيه الفعلة. وتقول (أكرمتك بحسن إجابتك أو بحسن تصرفك) فقد يكون الإكرام أكبر بكثير من عمله، فلا يقتضي ذلك مساواة الجزاء للعمل بل قد يكون مساوياً له وقد يكون غير مساوٍ له. ولم يرد في القرآن الكريم ﴿هل يجزون إلا ما كانوا يعملون﴾ ونحوه من التعبيرات في خطاب المؤمنين البتة وإنما ورد ذلك في خطاب الكافرين أو الخطاب لعموم الخلق . فأما في خطاب الكافرين فتكون العبارة بمعنييها معاً وهو أنه لا يجزون إلا بمقدار ما كانوا يعملون ومن جنس ما كانوا يعملون. وأما في خطاب عموم الخلق فالراجح أنه يعني الجنس أي إنما تجزون من جنس عملكم بدليل استثناء المؤمنين من المعنى الأول فإن جزاءهم أكبر من عملهم. أما الجزاء بالباء فيكون للمؤمنين والكافرين قال تعالى ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ التوبة 121 وقال ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ النور 38 . وهذه بشارة عظيمة، وقد أخبرنا ربنا أن الذي يعمل السيئة لا يجزى إلا مثلها أما الحسنة فتجزى بعشر أمثالها أو تجزى بخير منها، قال تعالي ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ﴾ – غافر 40، وقال ﴿فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ –القصص 84. وقال ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ الأنعام160 وقال ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ﴾ –النمل 89 وأما التعبير بالباء فيرد للمؤمنين والكافرين كما ذكرنا. قال تعالى ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ النحل 97 وقال ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ الزمر 35 فهذا في المؤمنين وقال في الكافرين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ﴾ – الأنعام 120. وقال: ﴿سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴾ الأنعام 157. فاتضح الفرق بين التعبيرين. ونعود إلى آية يس وهي قوله ﴿فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فقد ذكرنا أنه التفت إلى المخاطبين بعدما ذكر العموم ولم يقل (فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزى إلا ما كانت تعمل) وذلك أن الظلم منفى عن أن يوقع بكل نفس على جهة العموم فلا تظلم نفس شيئاً، ولو قال (ولا تجزى إلا ما كانت تعمل) لاحتمل أن يكون المعنى أنه لا تجزى أي نفس إلا بمقدار ما كانت تعمل وهذا المعنى غير صحيح ولا مراد إذ قد تجزى نفس بأضعاف ما كانت تعمل وهي نفوس المؤمنين على العموم فالتفت إلى المخاطبين ليخبرهم بما أخر ويحذرهم من مغبة أعمالهم. فقوله تعالى ﴿وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ قد يكون مقصوداً به الكفار خصوصاً ولهذا المعنى ما يرجحه ذلك أن الآية وقعت في سياق الكلام على الكفار وذلك ابتداء من قوله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ إلى هذه الآية. ويرجح ذلك أيضاً قوله بعد البعث ﴿يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ﴾ فيكون هذا التعبير مقصوداً بمعنييه أي إنكم لا تجزون إلا بمقدار ما كنتم تعملون ومن جنسه. وقد يكون مراداً به العموم فيكون المقصود به أنكم لا تجزون إلا من جنس أعمالكم، فكان الالتفات في نحو هذا أولى. وقد تقول: لقد قدم نفي الظلم على الجزاء في هذه الآية. وفي آية آخري قدم الجزاء على نفي الظلم فقال ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ – غافر 17 فما السبب؟ فنقول: إن جو سورة يس وسياق الآيات فيها إنما هو في العلاقات بين أفراد المجتمع وظلمهم لبعضهم فقد ذكر قبل هذه الآيات ظلم أصحاب القرية للمرسلين، وقتلهم الرجل الصالح ظلماً، وذكر ظلم الموسرين للفقراء بأن منعوهم حقهم، ثم ذكر أن الصيحة تأخذهم وهم يختصمون فيما بينهم. فقدم نفي الظلم الذي يقع بين العباد على العمل الذي هو عام ويدخل فيه الظلم وغيره. وأما في سورة غافر فلم يرد ما يتعلق بعلاقة الفرد بالمجتمع وتظالمهم فيما بينهم بل الكلام فيها على العقيدة، وليس في السورة موطن واحد ذكر فيه ظلم العبد للعبد حتى أنه في الآية الخامسة وهي قوله ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ لم يذكر الأخذ وإنما ذكر الهم بالأخذ. فناسب تقديم الجزاء على نفي الظلم والله أعلم.

ﵟ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﵞ سورة يس - 54


Icon