الوقفات التدبرية

برنامج لمسات بيانية (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي...

برنامج لمسات بيانية (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يصح أن يكون هذا الكلام من جملة ما يقال للكفار وهم تتمة للكلام السابق فقد قيل لهم ﴿فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ثم ذكر لهم عن أصحاب الجنة فقال ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ(55)﴾ وذلك زيادة لحسرتهم بأن يروا ما أعد لهم من أنواع العذاب ويخبروا بنعيم أهل الجنة. كما يصح أن يكون هذا استئناف كلام جديد وإخباراً عاماً لنا عن أصحاب الجنة ونعيمهم لنقتدي بسيرتهم. فهو على تقدير كونه خطاباً للكافرين يوم القيامة يكون تنديماً لهم وزيادة في حسرتهم، وعلى تقدير كونه إخباراً لنا عن نعيمهم في ذلك اليوم يكون باعثاً لنا لنكون منهم؟ وقد صيغ هذه الصيغة الاحتمالية لتحتمل الأمرين، فهو من ناحية تنديم للكافرين يوم القيامة، وهو من ناحية أخرى حث لأهل الدنيا فجمع بين الأمرين، ولو خاطب أصحاب الجنة قائلاً (يا أصحاب الجنة إنكم اليوم في شغل فاكهون... ) كما خاطب الكافرين بقوله ﴿وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لم يجمع هاتين الفائدتين، جاء في (روح المعاني): " قوله تعالى ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾ على تقدير كون الخطاب السابق خاصاً بالكفرة من جملة ما سيقال لهم يومئذ زيادة لحسرتهم وندامتهم فإن الإخبار بحسن حال أعدائهم إثر بيان سوء حالهم مما يزيدهم مساءة على مساءة، وفي حكاية ذلك مزجرة لهؤلاء الكفرة عماهم عليه ومدعاة إلى الاقتداء بسيرة المؤمنين. وعلى تقدير كونه عاماً ابتداء كلام وإخبار لنا بما يكون في يوم القيامة إذا صار كل إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب" (1) لقد أخبر عن أصحاب الجنة بأنهم في شغل والشغل هو الأمر الذي يشغل المرء عما سواه فلا يلتفت إلى غيره إما لكونه موجباً للمسرة أو للمساءة، ولما قال ﴿فاكهون﴾ علم بأنهم مشغولون بالنعيم فلا يعنيهم أمر أهل النار ولا أهوال يوم القيامة ولا غير ذلك من الأمور. ونكر الشغل ليدل على أن هذا الشغل ليس مما نعهد من الشغل ولا مما نعرف وإنما هو شغل آخر يكفي أن يقال إنهم فاكهون فيه، ولا يحسن التعريف ههنا لأن الشغل المذكور غير معلوم ولا معروف، فأنت إذا سألت شخصاً: أين أبوك؟ فقال لك: هو في الشغل، دل ذلك على أنه في الشغل المعهود الذي يشغله كل يوم أو مما يشغله في العادة. فإن قال لك: هو في شغل، علمت أنه ليس في شغله المعهود وإنما هو شغل آخر طرأ له ولا تعلم أهو شغل في خير أم في مساءة، فقال تعالى إنهم فاكهون في شغلهم، جاء في (التفسير الكبير): "قوله ﴿في شغل﴾ يحتمل وجوها: (أحدها) في شغل عن هول اليوم بأخذ ما أتاهم الله من الثواب فما عندهم خبر من عذاب ولا حساب، وقوله ﴿فاكهون﴾ يكون متمما لبيان سلامتهم، فالله لو قال ﴿في شغل﴾ جاز أن يقال هم في شغل عظيم من التفكر في اليوم وأهواله، فإن من يصيبه فتنة عظيمة ثم يعرض عليه أمر من أموره ويخبر بخسران وقع في ماله يقول: أنا مشغول غن هذا بأهم منه، فقال ﴿فاكهون﴾ أي شغلوا عنه باللذة والسرور لا بالويل والثبور. و(ثانيها) أن يكون ذلك بياناَ لحالهم ولا يريد أنهم شغلوا عن شيء بل يكون معناه هم في عمل ثم بين عملهم بأنه ليس بشاق بل هو ملذ محبوب" (2). وجاء في (روح المعاني): "والشغل هو الشأن الذي يصد المرء ويشغله عما سواه من شؤونه لكونه أهم عنده من الكل إما لإيجابه كمال المسرة أو كمال المساءة والمراد ههنا الأول وتنكيره للتعظيم كأنه شغل لا يدرك كنهه والمراد به ما هم فيه من النعيم الذي شغلهم عن كل ما يخطر بالبال ... وأفرد الشغل باعتبار أنه نعيم وهو واحد بهذا الاعتبار" (3) إن هذا التعبير يحتمل أن يكون قد أخبر عن أصحاب الجنة بخبرين وهما أنهم في شغل وأنهم فاكهون فيكون ﴿في شغل﴾ خبراً أول و﴿فاكهون﴾ خبراً ثانياً على النحو الآتي: إن أصحاب الجنة ﴿في شغل﴾، ﴿فاكهون﴾. كما يحتمل أن يكون الخبر هو ﴿فاكهون﴾ و﴿في شغل﴾ متعلقاً به، أي أنهم فاكهون في الشغل، أي: أن أصحاب الجنة (فاكهون في الشغل) أي متمتعون بالشغل. وبهذا جمع عدة معان وهي: أنهم في شغل، وأنهم فاكهون على العموم سواء كان ذلك في الشغل أم في غيره، وأنهم فاكهون في الشغل. إنه يصح في العربية أن يقال (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهين) فيكون الخبر ﴿في شغل﴾ و﴿فاكهين﴾ حالاً من الجار والمجرور، غير أن ما قاله أولى ذلك لأنه لو قالها بالنصب لكان المعنى أنهم فاكهون عند شغلهم فيكون التمتع في الشغل، أما في غيره فهو مسكوت عنه فقد يكونون فاكهين أو غير فاكهين. فجاء به مرفوعاً ليعم ذلك كل الأحوال والأوقات، جاء في (روح المعاني): "والجار مع مجروره متعلق بمحذوف وقع خبراً لإن و﴿فاكهون﴾ خبر ثان لها، وجوز أن يكون هو الخبر و﴿في شغل﴾ متعلق به أو حال من ضميره.. والتعبير عن حالهم هذه بالجملة الإسمية قبل تحققها لتنزيل المترقب المتوقع منزلة الواقع للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها، وفيه على تقدير خصوص الخطاب زيادة لمساءة المخاطبين" (4) ومعنى ﴿فاكهون﴾ متنعمون متمتعون متلذذون بما يحصل لهم (5)، يقال (تفكهت بالشيء) أي تمتعت به (6). وقد قدم (في الشغل) على ﴿فاكهون﴾ للاهتمام وذلك لبيان أنهم في الشغل فاكهون، إذ من المعتاد أن يتفكه الإنسان في الراحة من الشغل لا في الشغل، فذكر أنهم في شغل فاكهون إذ أن هذا الشغل ليس كالأشغال الأخرى التي ترهق المرء وتضنيه؟ هذا في الشغل فكيف في غيره مما يتفكه فيه الإنسان؟!

ﵟ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﵞ سورة يس - 55


Icon